رغم أن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أتى على خلفية حكومة مصطفى الكاظمي ذات الطابع المؤقت، والتي أتت بدورها بعد ظروف سياسية وشعبية شديدة التوتر والاضطراب انتهت بإطاحة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية عام 2019، فإن أوضاع العراق بوصفه بلداً مضطرباً منذ عقود طويلة باتت تشجع المراقبين المحليين على القول: «يبدو أن ملامح بلاد مستقرة نسبياً آخذة في التبلور، لكن من دون الإفراط في المبالغة».
ومنذ تولي السوداني مهمة رئاسة الوزراء نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتمتع البلاد بهدوء نسبي غير مسبوق منذ نحو عقدين على مختلف المستويات، بيد أن هذا الهدوء يعود بشكل أساسي منه إلى مجموعة عوامل صادف أنها توفرت لحكومة السوداني وساهمت في توفير ما يمكن تسميتها بـ«البيئة الآمنة» لعملها خلال عمرها الممتد لأكثر من نصف عام بقليل.
بغض النظر عن تسلسل أهمية تلك العوامل بالنسبة للمراقبين المحليين، فإن الوفرة المالية التي تمتعت بها حكومة السوداني من بين أبرز عوامل الاستقرار النسبي؛ إذ إنها ورثت عن حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي احتياطياً نقدياً يقدر بأكثر من 90 مليار دولار، ونحو 130 طناً من الذهب، إلى جانب ارتفاع أسعار النفط التي وفرت 153 مليار دولار لصالح موازنة البلاد الاتحادية التي تعد الأضخم منذ عام 2003. هذه الوفرة المالية سمحت لحكومة السوداني بتعيين نحو 850 ألف موظف في القطاع العام، وما يعنيه ذلك من امتصاص النقمة الشعبية الناجمة رغم الكلفة الباهظة وانعكاسات ذلك السلبية على اقتصاد البلاد.
لعل من بين أهم الأسباب الأخرى التي سمحت بالاستقرار النسبي للأوضاع، هي حالة الهدوء التي يلتزمها التيار الصدري المنسحب من البرلمان (72 مقعداً)، نهاية أغسطس (آب) 2022، وخلافاً للتوقعات التي كانت تشير إلى إمكانية قيام التيار بقلب الطاولة على خصومه في قوى «الإطار التنسيقي» من خلال السيطرة على الشارع عبر مظاهرات حاشدة تتسبب بإسقاط الحكومة، التزم مقتدى الصدر وتياره مستوى عالياً من الهدوء رغم امتعاضه الشديد من تصرفات وتحركات خصومه «الإطاريين»، وضمنها إسنادهم منصب رئاسة الوزراء إلى محمد شياع السوداني.
ثمة من يرى أن الطابع الشخصي لرئيس الوزراء أحد الأسباب المساعدة، وخاصة مع عدم ميله للتصعيد ضد الخصوم وانحداره سياسياً من الداخل العراقي، خلافاً لمن سبقوه من رؤساء الوزراء الذين وفدوا إلى البلاد بعد سنوات من الغربة خارجها، وما يعنيه ذلك من قدرته على فهم التوجهات العامة للسكان.
وثمة من يرى أيضاً أن أهم عوامل الاستقرار النسبي، هو استناد حكومة السوداني إلى تحالف «إدارة الدولة» الذي يضم معظم القوى السياسية الشيعية والسنية والكردية، وتهيمن عليه ضمنياً قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، وما يعنيه ذلك من تراجع معظم الهجمات العدائية ضد «المنطقة الخضراء» الرئاسية ومعسكرات الجيش وأرتال الدعم اللوجيستي لقوات التحالف الدولي، التي كانت تشنها الفصائل المسلحة المنضوية ضمن قوى الإطار.
وهناك من يتحدث عن تراجع حالة الاستقطاب الإقليمي كأحد الأسباب المهمة التي ساعدت على استقرار الأوضاع العراقية، ويرى أن التقارب مع سوريا في مسيرة التصالح التي حدثت بين المملكة العربية السعودية وإيران خلال الأشهر الأخيرة كلها عوامل مجتمعة صبّت لصالح حكومة السوداني، وسمحت لها بالتحرك بأريحية على المستوييْن الإقليمي والدولي.
كما أن التراخي الشعبي وعدم خروج مظاهرات واسعة النطاق كما حدث في عام 2019، عززا، حتى الآن، فرص الاستقرار في البلاد. يضاف إلى ذلك أن موجة جديدة من الاحتجاجات غير مستبعدة، لكن توقفها حتى الآن، منحت حكومة السوداني فسحة مناسبة للعمل بعيداً عن الانشغال بتطويق تداعيات أزمة من هذا النوع.
ورغم نجاح تنظيم «داعش» مؤخراً في شن بعض الهجمات العسكرية على نقاط للشرطة والجيش في محافظات غرب وشمال البلاد، فإن حالة الأمن والاستقرار في البلاد تسير بوتيرة متصاعدة، ولم تعد مسألة قدرة التنظيم على مهاجمة التجمعات المدنية قائمة، مثلما هي الحال مع أعمال العنف المسندة إلى أسس طائفية.
ومن بين أسباب أخرى، ربما أسهمت في حالة الهدوء التي تشهدها البلاد، استفادة حكومة السوداني من تحسن الخدمات ومنها وصول إنتاج الكهرباء خلال هذا العام إلى نحو 24 ألف ميغاواط، ما انعكس على شكل زيادة تجهيز المنازل والمؤسسات بالطاقة الكهربائية، وما يعني ذلك من تراجع حدة الغضب الشعبي، وتالياً مساهمة ذلك في استقرار البلاد بعد عقود طويلة من الاضطراب.
فاضل النشمي
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط