أثار البيان الأوّليّ الصادر عن قيادة الجيش ليل السبت تساؤلات بحجم الحادثة التي وقعت في القرنة السوداء وأدّت إلى وقوع قتيلين من آل طوق مشرِّعةً الأبواب مجدّداً على “حرب الفتنة” بين “الأهالي”. فالبيان الذي اكتفى بالإشارة إلى “تعرُّض أحد المواطنين لإطلاق نار في منطقة القرنة السوداء أدّى إلى مقتله، وقُتل لاحقاً مواطن آخر في المنطقة عينها”، والتأكيد على انتشار الجيش وتوقيف عدد من الأشخاص، أثار التباساً حول مسؤولية الجيش حين ذكّر ببيان سابق بتاريخ 1 حزيران حذّرت فيه قيادة الجيش يومذاك “المواطنين من الاقتراب من منطقة التدريب العسكرية في القرنة السوداء، وإعادة التشديد على عدم اقتراب المواطنين كافّة من هذه المنطقة تحت طائلة المسؤولية وحفاظاً على سلامتهم ومنعاً لوقوع حوادث مماثلة”.
حقيقة ما حصل
في الوقائع، كانت قيادة الجيش قد أصدرت في 12 حزيران الماضي بياناً أشارت فيه إلى “قيام وحدات من الجيش حتى 11 تشرين الثاني المقبل بتنفيذ تمارين ومناورات تدريبية بالذخيرة الحيّة في منطقة التدريب العسكرية في القرنة السوداء”، محذِّرة “المواطنين من الاقتراب من منطقة التدريب العسكرية حفاظاً على سلامتهم، وتفادياً لعرقلة تدريبات وحدات الجيش تحت طائلة المسؤولية”.
لم يأتِ إصدار الجيش لهذا البيان ضمن سياق روتينيّ بل على خلفيّة تكرار حالات الاشتباك والتوتّر، إضافة إلى اعتداء عدّة أشخاص من بشرّي في 4 حزيران على راعٍ من بلدة بقاعصفرين-الضنّية كان يسوق قطيعه في جرود البلدة، وقتلهم عدداً من رؤوس الغنم والماعز بعد إطلاق الرصاص عليها من أسلحة حربية كانت بحوزتهم.
وفق المعلومات، قادت هذه الحادثة، فوق جبال من تراكم الاحتقانات، إلى المشهد الدمويّ في القرنة السوداء الذي تتحمّل مسؤوليّته السلطة السياسية العاجزة والقضاء “المرتخي” والمتواطئ.
ما يزال الجيش يتابع التحقيقات لتحديد المسؤوليّات، خصوصاً أنّ القتيل الثاني وقع في لحظة كانت المنطقة في ذروة التوتّر وتضمّ ثلاثة أطراف مسلّحة هي الجيش ومجموعة شباب الضنّية ومجموعة شباب بشرّي، ويحاول تحديد هويّة مطلقي النار.
هذا وعلم “أساس” أنّ الضحيّة الأولى الشابّ هيثم طوق قُتل في منطقة الشِحَين برصاص مجموعة من شبّان الضنّية قدمت إلى المنطقة معزّزة بالسلاح لحماية قطيع الماعز ولدى اصطدامها بوجود مجموعة شبّان (من بشرّي) حصل استنفار بين الجهتين وسحب سلاح واشتباكات استمرّت نحو نصف ساعة وأدّت إلى مقتل هيثم طوق.
إثر الحادث نفّذ الجيش بشكل فوري انتشاراً عسكرياً في المنطقة واستدعى “فوج المغاوير” واستنفرت القطعات العسكرية واستعان الجيش بمروحيّات الهليكوبتر في محاولة للقبض على المجموعة المتورّطة بالحادث، وذلك قبل أن تُعلِن النائبة ستريدا جعجع طلبها من الجيش التدخّل.
لكن خلال توجّه الجيش إلى المكان تعدّدت الروايات في شأن ما حصل، خصوصاً أنّ عناصره وُضعوا مرّة جديدة في بوز مدفع درء الفتنة الطائفية. فثمّة رواية تتحدّث عن اصطدام الجيش بمجموعة من الشبّان البشرّاويّين من طالبي الثأر إثر معرفتهم بمقتل هيثم طوق، بعدما وجّه إليهم نداءات متكرّرة للانسحاب، وأدّى إلى حصول اشتباك قُتل خلاله الشابّ مالك طوق، فيما هناك رواية أخرى تشير إلى أنّ مالك طوق سَقط بعد محاولته تجاوز نقطة عسكرية للمغاوير في المنطقة وعدم امتثاله للأوامر العسكرية بالتراجع.
19 موقوفاً لدى الجيش
تفيد معلومات “أساس” أنّ عدد الموقوفين لدى الجيش بلغ 19 موقوفاً: 13 من بقاعصفرين و6 من بشرّي، فيما ضُبطت لدى الطرفين أسلحة حربية خفيفة ومتوسطة وذخائر، وجرت محاولات من جانب نواب منطقة بشرّي لإطلاق سراح الشبّان.
هو مشهد يتكرّر تقريباً كلّ سنة وفي التوقيت نفسه في تلك الجرود بين أهالي منطقتَيْ بشرّي والضنّية بسبب خلافات بينهم حول المشاعات والمراعي وإمدادات المياه، ويؤدّي دوماً إلى وقوع إشكالات، لكنّ حادثة القرنة السوداء صباح السبت أيقظت شياطين الفتنة من أوكارها وشَحَنَت النفوس ووضَعَت “مُعسكرَيْ” الضيعتَيْن على سلاحهما.
في السنوات الماضية تكرّرت اتّهامات بقاعصفرين-الضنّية لأشخاص من بشرّي بقتل رؤوس من الماعز والماشية في محيط القرنة السّوداء مع نفي متكرّر من بشرّي و”القوات اللبنانية” لحصول حوادث كهذه، وذلك ضمن مسلسل النزاع المستمرّ على ملكيّة “القمّة الأعلى” وحقّ استثمارها والاستفادة من مياهها.
لم تسفر كلّ الجهود والمساعي التي تُبذل سنويّاً، على كلّ المستويات، عن إيجاد حلّ لهذه المشكلة التي تتفاقم كلّ صيف وتؤدّي إلى تأجيج الغرائز الطائفية وتستدعي تدخّل “القمم” الروحية والمرجعيات السياسية، فيما تزدهر “الاستثمارات” في الدماء والنفوس المحقونة من جهات من الطرفين في مقابل من يسعى، من الطرفين أيضاً، إلى دفن الفتنة وتهدئة الخواطر مع دعوات إلى “تحكيم العقل والحكمة وترك القضاء يأخذ مجراه”.
حتى الآن ما تزال بركة مياه لريّ المزروعات في محيط “تلّة سمارة” بجرود بقاعصفرين تؤجّج النزاع بين بشرّي والضنّية، وغالباً ما تستدعي استنفاراً أمنيّاً وتدخّلات رئاسية وسياسية. وهي تدخل ضمن الأعمال التي ينفّذها “المشروع الأخضر” في وزارة الزراعة، لكنّ بلدية بشرّي ونوّابها يرون أنّها مخالفة للقوانين وتقع ضمن القطاع العقاري لبشرّي.
هكذا تبدو الخلافات على جرّ المياه بين القضاءين قضية كونيّة تتجدّد كلّ عام. نزاع مُستمرّ منذ سنوات طويلة يتخلّله تقطيع أنابيب الجرّ نحو بقاعصفرين واستخدام أسلحة خفيفة في الاشتباكات.
في الواقع لم تحسم خرائط الجيش النزاع بين بلديّتَيْ بقاعصفرين وبشرّي، وهي تُظهِر أنّ القرنة السّوداء تبعد نحو 4 كيلومترات خطّ نار عن حدود بشرّي الإدارية. وقالت أمانة السجلّ العقاري في الشمال في تقرير لها عام 2014 إنّ “القرنة السوداء ومحيطها يقعان ضمن نطاق بلدية بقاعصفرين العقارية”. وهناك خرائط رسمية من أيّام الانتداب الفرنسي تُثبت أنّ القرنة السوداء تقع ضمن الضنّية، تقابلها خرائط عقارية جديدة تُظهِر أنّ مساحة كبيرة من المنطقة المحيطة بالقرنة السوداء تصنّف ضمن النطاق العقاري لبشرّي.
وإلحاقاً ببيانها الأول دعت قيادة الجيش “جميع اللبنانيين إلى التحلّي بالمسؤولية وضبط النفس والحرص على السلم الأهلي، وعدم الانجرار وراء الشائعات واستباق التحقيق”.
كما أكدت القيادة أنّ “الوحدات العسكرية تواصل الانتشار وتنفيذ التدابير الأمنية في المنطقة، وأن الجيش يقوم بالتحقيق في الموضوع تحت إشراف المراجع القضائية المختصة”.
ملاك عقيل
المصدر: موقع أساس ميديا