من الأفيون إلى الورد.. معجزة اسمها “گُلاب” في إيران

Spread the love
image_pdfimage_print

كانت هناك وصفة سحرية في منزلنا القديم، تصنعها جدتي لمن تصيبه الدهشة أو يسيطر عليه الخوف فيغمى علي؛ تضع جدتي خاتمها العقيق اليماني في كأس من ماء، ثم تضيف له “سكّر النبات”، وماء الورد. تخلط الوصفة وهي ترفع من ذكر الصلوات (اللهم صلِّ على محمد وآل محمد). سألتها يوماً: لماذا وصفتك تشفي الجميع؟ ردت: من أجل ماء الورد، إنه رائحة الجنة، يشفي فاقدي الوعي.

يحضر ماء الورد في أفراح وأتراح الإيرانيين، وفي لحظاتهم السعيدة والتعيسة، في مطبخهم اللذيذ، وفي طبهم التقليدي. يتفنن الإيرانيون بماء الورد الجوري؛ يتناولونه ويتعطرون به ويغسلون به وجوههم، فهو بمثابة الداء لكل دواء، والطعم لكل طعام. بإمكان الإنسان أن يميز نحو تريليون رائحة في مشامه، وما هو أقرب لشامة الإيرانيين رائحة ماء الورد النفاذة القوية، فحين يستشممها أي إيراني أينما كان من مختلف بقاع العالم، سرعان ما تعود به الذاكرة إلى أصالته ووطنه وإلى منزل الجدة التي اعتادت على أن تضع ماء الورد في كل شيء.

تقول بعض المصادر إن وردة الجوري واسمها العلمي ((Rosa Damascena)، كانت تزرع في إيران منذ 7 آلاف سنة. ولكن المصادر التاريخية الموثوقة، تعلن عن تاريخ يمتد لألف عام فقط، أي حين استخرج العالم والطبيب ابن سينا ماءَ الورد الجوري عبر التقطير. 

يسمى ماء الورد باللغة الفارسية “گُلاب” (Golab)، كما يطلق الإيرانيون على ورد الجوري “زهرة محمّدي”، نسبة للنبي محمد، إذ يعتقد البعض أن الرسول كان يحبه. كان عطر الورد رائحة شرقية وإيرانية بامتياز حتى قبل 400 عام، حتى جاء قرار الدولة الصفوية في تصدير ماء الورد وأدوات التقطير إلى الإمبراطورية العثمانية، ومن ضمنها سوريا وتركيا، وإلى إسبانيا وغيرها من البلدان.

وهناك احتمال بأن يكون الأوروبيون عرفوا الورد المحمدي عبر سوريا، فبات يسمونه الوردَ الدمشقي “Rosa Damascena”، تماماً كما عرف الغربيون حجرَ الفيروز الإيراني بالحجر التركي ” Turquoise”، بسبب دخوله أوروبا عبر تركيا.

الصناعة المعطرة

حين نذهب في شهر نيسان/أبريل إلى قرية قَمصَر الشهيرة بالقرب من مدينة كاشان، وسط إيران، نندهش من رائحة الكُلاب. إنه موقع جغرافي لا يضم سوى حقول الورد وورش تقطيره التقليدية في المنازل الريفية.

تشكل المناطق الجافة وسفوح المياه المنخفضة مع فصول الشتاء الباردة، أراضيَ مستعدة لزراعة الورد، المقاوم أمام قلة المياه. تذهب النساء والفتيات صباحاً إلى الحقول ليجنين الورد، ثم يعدن ببتلات الزهور، ليضعنها في وعاء نحاسي كبير مع كمية معينة من الماء. من ثمّ يُغلى الخليط، وعندما يخرج البخار عبر أنابيب من فوق الوعاء، يمرّ بمكان بارد كي يتحول إلى ماء الورد الخالص. 

كان موسم تقطير ماء الورد، يبدأ عبر طقوس خاصة، حيث يقرع الأهالي الطبول ويأخذون بالرقص المحلي وترديد الأغاني التراثية التي تعبر عن فرحهم، فهم يطلقون على هذا الطقس “عيد ماء الورد”. كما يتفنن الإيرانيون بعملية التقطير هذه، التي تعد من ضمن تراثهم الثقافي، ويتوافد الكثير من الإيرانيين من شتى المدن إلى مدينة كاشان التي تبعد 3 ساعات عن العاصمة طهران، كما أن الكثير من السياح الأجانب أيضاً يحضرون في الورش التقليدية. 

نمت المصانع الحديثة الإيرانية في مجال استخراج ماء الورد، وكلما كانت بتلات الزهور أكثر من كمية الماء في الوعاء كلما كان “الكُلابُ” أكثر نقاءً، ويطلق عليه “كُلاب الدرجة الأولى”. وهناك نوعية ماء الورد العادي أو الخفيف، ونوعية أخرى تسمى “دو آتيشه” (ذا نارَين)؛ تضاف إلى النوع الأخير بتلات جديدة مستخلصة، لغليِه مرة ثانية، وذلك من أجل الحصول على ماء ورد بجودة عالية جداً يستخدم للعلاج عادةً.

ويستخرج من الورد الجوري الزيت، لاستخدامه في التجميل والعناية بالبشرة بشكل واسع، فهو عنصر أساسي في التركيبات العطرية، كما يساعد في ترطيب البشرة، ونسبة استخدامه في مستحضرات التجميل الطبيعية عالية، ويسجل حالة من الإقبال عليه لصنع الكريمات الباردة.

لم يطور الإيرانيون مهاراتهم في صناعة زيت العطور من ماء الورد، ولكن في السنوات الأخيرة برز أحد التجار الإيرانيين في استخراج زيت الورد العضوي، وكسب  سوقاً دولياً خاصاً.

من الأفيون إلى الورد

كانت قرية لاله زار من ضواحي مدينة كرمان وسط البلاد تزرع الأفيون حتى عام 1973، حينها قرر رجل الأعمال همايون صَنعتي زاده وزوجته، زراعة بصيلات الورد (المحمدي) في تلك القرية. وبعد سنوات عرفوا أن جودة المحصول وبسبب المناخ هناك، أكثر من باقي المدن بنسبة 50%، فوسعوا مزارعهم. ثم التحق بهم سكان القرية شيئاً فشيئاً بعد أن كانوا معارضين لهما في بادئ الأمر.

تحولت حقول الأفيون إلى حقول الجوري، واليوم تنتج تلك القرية زيتاً خالصاً ذو جودة عالية في مصانعها، يتم تصديره إلى أشهر مصانع الماركات العالمية في إنتاج العطور.

الكُلاب، عطر إيران

لا يمكن وصف الروائح في الكلمات، ولا يمكن أن نجد مفردات تعبر جيداً عن رائحة ماء الورد الإيراني، تلك الرائحة التي قد لا يشمّها أحد في مكان آخر. عطر الكُلاب هو رائحة الحنين والتراث بالنسبة للإيرانيين؛ عبق دافئ وكثيف. لا يخلو مطبخ إيراني من قنينة ماء الورد، فالإيرانيون يستخدمونه بنسبة تبلغ 60 مليون لتر سنوياً. 

يحبذ الإيرانيون تناول المشروبات والأطعمة والحلوى والبوظة برائحة الكُلاب، خاصة إذا اختلطت برائحة الزعفران. فهناك مشروبات صيفية مهدئة لا تعد سوى بإضافة كمية من ماء الورد والسكّر إلى الماء. كما يتم إعداد الأرز الإيراني بماء الورد. ولا يمكن أن تتناولوا حلوى إيرانية تقليدية دون أن تشعروا بطعم الورد فيها. أما المربى فهو الآخر لا يخلو من طعم ماء الورد أبداً.

يستخدم ماء الورد في تعطير الأماكن الدينية لدى المسلمين أيضاً، ويهدي الإيرانيون كميات كبيرة من أنقى ماء الورد للسعودية بغية استخدامه في غسل الكعبة، ويستخدمه السكان في تعطير المساجد والحسينيات ومزارات الأولياء، فأصبح ماء الورد العطرَ المحبب لدى الجهات الدينية. وعند إقامة العزاء في شهر محرم على مقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، ثمة من يقف بين المعزين ليرش عليهم ماءً بارداً ممزوجاً بماء الورد.

مستخلص الشفاء

يؤكد كثير من الأطباء التقليديين الإيرانيين على ضرورة استخدام ماء الورد في العلاج، حسب الطب القديم، حتى أنهم يقولون إن من يملك قنينة ماء ورد في منزله، فهو كمن يملك نصف صندوق الإسعافات الأولية. ووفق وصفاتهم، رائحته تعمل كمهدئ للآلام، وهي كذلك مضادة للاكتئاب والقلق، وبخار ماء الورد هو علاج لالتهاب الحلق ومشاكل الجهاز التنفسي، وفرك الجفون بماء الورد يزيل تعب العيون، وتناوله يقوي المعدة والقلب. كما أن التدليك بماء الورد يفتح التجاعيد السطحية وينعش البشرة، ويمكن أيضاً علاج وجع الأسنان والغثيان والإسهال وانتفاخ البطن وألم القلب بقليل من تناول ماء الورد. 

لذلك يطلق الأطباء التقليديون على ماء الورد بأنه مستخلص الشفاء، حتى أن الشاعر الإيراني حافظ الشيرازي في القرن الرابع عشر الميلادي، قارن مدى تأثير أشعاره بماء الورد:

شفا ز گفته یِ شکّر فشانِ حافظ جوی
که حاجتت به علاج گلاب و قند مباد

(اطلب الشفاءَ من أقوال حافظ السكرية (الطيبة)/ فلست بحاجة للعلاج بماء الورد والسكّر)

كما أن “گلاب”، أحد أسماء الفتيات في البلاد، لشدة انبهار وحب الإيرانيين بهذا المنتج الإيراني الخالص. ويمكن أن تشعروا برائحة ماء الورد من وسط الأشعار الفارسية، فمثلاً هناك بيت للشاعر مولانا جلال الدين الرومي في القرن الثالث عشر، يقول فيه:

چونکه گل بگذشت و گلشن شد خراب
بوی گل را از که یابیم؟ از گلاب

(إن ذهب الوردُ وتحطم البستان/ من أين نطلب رائحة الورد؟ من ماء الورد)

قيل إن هذا البيت مقتبس من شعر أبي طيب المتنبي، الذي كان شاعراً ملهماً بالنسبة للرومي:

فإن يكُ سيارُ بن مُكْرَمٍ انقضى
فإنك ماء الورد إن ذهب الوردُ.

مهدي كنجي

المصدر: موقع رصيف 22