منذ الجلسة الاخيرة لانتخاب الرئيس في 14 حزيران والنتائج المترتبة على الاقتراع، غدا منطقياً ان الاستحقاق دخل في اجازة طويلة، أقرب الى غيبوبة، ان لم تسابقه مفاجأة او صدمة غير محسوبة. لا احد يسعه تقدير عمر الاجازة: الى آخر الصيف أم الى آخر السنة؟
لا يزال الشغور الرئاسي في سن قصيرة، في شهره الثامن، اذا كان لا بد من الاخذ في الاعتبار ان ثمة سابقة له بين عامي 2014 و2016 طالت الى سنتين وخمسة اشهر. تالياً، يمسي الانتظار عادياً، وانعقاد الجلسات او عدم انعقادها هامشياً، واستمرار الشغور غير ذي مصدر قلق في واقع يتعوّد اللبنانيون والسلطات عليه ويتطبّعون معه: تحسّن قدرتهم على احتمال التدهورين المعيشي والنقدي، ادارات رسمية معطلة معظم ايام الاسبوع، سلطتان دستوريتان هما مجلس النواب والحكومة يعملان بالحد الادنى، فيما اكثر ما يبعث على الاطمئنان ان احداً من الافرقاء ليس في وارد المغامرة والمجازفة بتعريض الامن الداخلي الى الاضطراب. على نحو كهذا مرت الاشهر المنصرمة. لا عجلة في التئام جلسة انتخاب الرئيس في ظل توازن قوى أحاله مستحيلاً ولا يزال الى الآن على الاقل.
قبل اكثر من شهر ذُللت مشكلة ظُنَّ انها ستستعجل انتخاب رئيس للجمهورية حملت على الاعتقاد بوقوع الانتخاب هذا الشهر، هو جدل كان بدأ في آذار المنصرم وامتد الى الشهرين التاليين عن معضلة ما بعد نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في 31 تموز، واي خيارات متاحة لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي كما لكل الدائرين في فلك سلامة او الدائر هو في فلكهم، حيال كيفية خروجه من المنصب آمناً والاتيان بخلف له على طاولة حكومة تصريف اعمال في غياب رئيس للجمهورية.
في 12 ايار قدّم الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الحل، الملزم حكماً. قال انه ضد تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان وضد تمديد ولايته، و«على الجميع تحمّل مسؤولياته وعدم التخلي عنها». الشهر نفسه، في عيد التحرير والمقاومة في 25 ايار، اعاد تأكيد الموقف بأن حكومة تصريف اعمال لا تملك صلاحية التعيين والعزل دستورياً و«المطلوب التفاهم على البديل». اتى موقفاه هذان معاكسيْن لما صرّح به رئيس البرلمان نبيه برّي اكثر من مرة انه ضد تولي النائب الاول صلاحيات الحاكم فور شغور منصبه. في الاسابيع الاخيرة لم يعد احد يتحدث عن سلامة او يأتي على ذكره، وبات يُنظر اليه – مع كل ارتكاباته والحمايات المظلِّلة لها – على انه صار من الماضي توطئة لخروجه اخيراً.
بذلك بدا احلال النائب الاول للحاكم وسيم منصوري محله حتمياً، تبعاً للاجتهاد الذي عبّر عنه ضمناً نصرالله: على نحو ما رافق احالة اللواء عباس ابراهيم على التقاعد في 2 آذار وتعيين العميد الياس البيسري مديراً عاماً للامن العام بالانابة في اليوم التالي بتأجيل احالته الى التقاعد واعادته الى الخدمة الفعلية، صار القياس طبيعياً ومتوقعاً. لمزيد من التطمين والنظر بايجابية بانتقال طبيعي من اصيل الى وكيل، ومن طائفة الى اخرى موقتاً، رقي البيسري في 26 ايار الى لواء بعدما شغرت في ملاك المديرية العامة للامن العام رتبة لواء – وهي الوحيدة – فحازها.
بغية انتظام المؤسسة حلّ الضابط الماروني محل الضابط الشيعي ريثما الوصول الى مرحلة ما بعد انتخاب رئيس للجمهورية. هكذا يحل ايضاً نائب الحاكم الاول الشيعي محل الحاكم الماروني للسبب نفسه. لم تعد مذذاك حوافز لاستعجال انتخاب الرئيس ولا القلق من شغور غير قائم في الاصل في مصرف لبنان.
ما صحّ في المرة الاولى وساد او يكاد في المرة الثانية الوشيكة، من المنتظر توقعه في المرة الثالثة اذا طال الشغور الرئاسي الى ما بعد تشرين الاول.
يكمن الامتحان الجديد في شغور منصب قائد الجيش العماد جوزف عون الذي يحال الى التقاعد في 10 كانون الثاني 2024. لأن لا رئيس للاركان في الجيش مذ احيل اللواء امين عرم الى التقاعد في 24 كانون الاول 2022 ـ وهو الرجل الثاني في المؤسسة العسكرية يخلف قائدها – نشأت المشكلة الحالية التي، خلافاً للامن العام وحاكمية مصرف لبنان، تتداخل فيها الحسابات والاثمان السياسية المبكرة واللاحقة.
عملاً بقانون الدفاع الوطني، فإن وزير الدفاع صاحب الصلاحية الحصرية لاقتراح اسم رئيس الاركان على ان يصير الى تعيينه في مجلس الوزراء الذي يملك ان لا يوافق على الاسم المقترح ويعيده الى الوزير، بيد ان لا صلاحية له في استبداله بآخر ولا اقتراح اي اسم لا يوافق عليه الوزير. في الايام الاخيرة اثير مخرج يقضي خلافاً لقانون الدفاع بأن يتولى قائد الجيش – بل قيل انه هو صاحبه – اقتراح اسم رئيس الاركان يُعبَّر عنه في اوساط اليرزة انه «فذلكة ما بعدها فذلكة». كان عون تحدث الاربعاء المنصرم عن هذا الموقف في خلال تقليده العمداء الجدد رتبهم بأن احداً لا ينوب عن قائد الجيش الا رئيس الاركان.
تقيم المشكلة الجديدة وحلولها في آن في المعطيات الآتية:
1 – يحلّ رئيس الاركان محل قائد الجيش عند شغور منصبه او في خلال تعذّر قيامه بوظيفته لأسباب اسفاره او صحية. على ان استمرار عمل المؤسسات يقدّم بدوره حلاً عندما يشغر منصب الرجل الثاني في الجيش بعد الرجل الاول بأن يحلّ الضابط الاعلى رتبة في المنصب الاعلى. المرشح لملء الشغور، عندما يحين اوانه إن لم يُعيّن رئيس جديد للاركان، هو العضو المتفرغ الكاثوليكي في المجلس العسكري اللواء بيار صعب. اعلى الوية الجيش رتبة حالياً بعد قائده، والاعلى رتبة في مَن تبقى من اعضاء المجلس العسكري. الواقع ان المتبقي من المجلس العسكري، بعد عون وصعب، ثالث لا غير هو العضو السنّي الامين العام للمجلس الاعلى للدفاع اللواء محمد مصطفى.
2 – لأن صلاحية وزير الدفاع في اقتراح رئيس الاركان مقيِّدة، يصعب على مجلس الوزراء او اي جهة اخرى تجاوزها بما فيها قائد الجيش. ذهاب مجلس الوزراء الى تعيين رئيس للاركان خارج النطاق القانوني المحدِّد للصلاحية والمقيِّد للوزير يجعله عرضة للطعن والابطال، ناهيك بتجاوز قائد الجيش حد السلطة المعطاة له.
3 – يقيم اصل المشكلة في ان وزير الدفاع موريس سليم محسوب على رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل الطاعن – مذ شغرت رئاسة الجمهورية – في شرعية اجتماعات حكومة مستقيلة تتولى صلاحيات الرئيس وبطلان قراراتها، ناهيك بمقاطعة وزرائه، ومنهم سليم، جلسات مجلس الوزراء. بلا موافقة باسيل يصعب الحصول على موافقة الوزير على اقتراح اسم رئيس الاركان. بيد ان المستحسن عند رئيس التيار الوطني الحر وصول بيار صعب الى منصب قائد الجيش بالانابة.
4 – ليس في الامكان التوصل الى تسوية تفضي الى تعيين رئيس للاركان تبعاً للاصول والاحكام المنصوص عليها في قانون الدفاع الوطني دونما ربطها ببازار سياسي بين اثنين معنيين بالمنصب: وليد جنبلاط المعتاد منذ عام 1990 انه المرجع الوحيد لتسمية رئيس الاركان الدرزي، وباسيل حامل توقيع وزير الدفاع في جيبه. من دونهما يصعب بلوغ تسوية تطاول مكاسب سياسية اكثر منها معلّقة على منصب عسكري. بيد ان تجاوز احدهما من شأنه التسبب بمشكلة جديدة داخل المؤسسة العسكرية هي الآن في غنى عنها في ظل الاحتدام الدائر بين وزيرها وقائدها. على ان كليْ جنبلاط وباسيل معني بوصول رجله الى ان يكون قائد الجيش بالانابة في المرحلة المقبلة.
نقولا ناصيف
المصدر: صحيفة الأخبار