ونحن نسير في هذا الحي في العاصمة طهران، يبدو لنا أننا نتمشى في بغداد، أو في أحد شوارع مدينة النجف. هو تماماً مثل الحي الصيني في قلب ولاية نيويورك الأمريكية. المتاجر عراقية، والمساجد عراقية، واللافتات عراقية، والزي عراقي، والحديث عراقي، والطعام عراقي. تُرى من جاء بهم إلى هنا؟ ألم تندلع حرب بين العراق وإيران دامت ثماني سنوات قبل أربعين عاماً؟ كثير من الأسئلة تراود كل من يزور “دولت آباد” وسوقها العربي.
توترت العلاقات بين إيران والعراق في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، فقرر الرئيس العراقي أحمد حسن البكر، أن يرحّل الإيرانيين الشيعة القاطنين في العراق عام 1971، وآلت هذه الخطة الحكومية المنتظمة بعدم تمديد إقامة أكثر من 60 ألف إيراني كانوا يعيشون في كلّ من بغداد والنجف وكربلاء، ليضغط العراق على الشاه محمد رضا بهلوي، بسبب موقفه من ملكية الجزر الثلاث في الخليج: طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، المتنازع عليها بين إيران والإمارات.
قطن عشرات الآلاف من الإيرانيين في عهد العثمانيين في العراق. أجيال عدة عاشت وترعرعت في العراق من دون أن تعرف ولو شيئاً قليلاً عن ثقافتها الإيرانية. تعلموا العربية وأتقنوا العادات العراقية، فأصبحوا عراقيين ثقافياً واجتماعياً، كما يصفون أنفسهم.
الرحلة الأولى
بعد فترة قليلة، أطيح بالشاه والنظام الملكي في إيران، وانتصرت الثورة الإسلامية عام 1979. وهذه المرة، تحت ذريعة محاولة اغتيال طارق عزيز (نائب رئيس الوزراء العراقي آنذاك)، قامت الحكومة العراقية بترحيل 40 ألف شخص آخرين إلى إيران، وصادر الرئيس السابق صدام حسين ممتلكاتهم وتركهم خالي الوفاض، فبين ليلة وضحاها أصبحوا على الحدود الإيرانية من دون أي شيء. موقف يسترجع ذكريات ترحيل يهود العراق وواقعة “الفرهود”، التي حدثت في حق العوائل اليهودية في بغداد.
لم يرحّل صدام حسين بعض شباب هذه العوائل الإيرانية، خشية انضمامهم إلى الجيش الإيراني، بل أخذهم رهائن وقتل بعضهم، واستمرت عملية طرد الإيرانيين حتى عام 1984، أي في خضم اشتعال الحرب العراقية الإيرانية.
الحياة في وطنين
رحّبت إيران بهؤلاء الذين عُرفوا بـ”المعاودين” و”المسفرين”، فقطنوا أينما شاؤوا في المدن الإيرانية الكبرى، لكن جلهم قطنوا في مدينتي قُم ومشهد الدينيتين والأهواز، إضافة إلى حي “دولت آباد” في جنوب شرق طهران، القريب من مزار السيد عبد العظيم الحسني، وكان حيّاً حديث الإنشاء في منشأة حضرية، وساهمت الحكومة في توطينهم هناك.
لا يعرف سكان العاصمة طهران الذين يطلقون على حي دولت آباد: حي العرب، الكثير عن أبناء جلدتهم الذين ما زالوا متمسكين بثقافتهم العراقية، ولا يعرفون ماذا عانى هؤلاء من تحدٍ هوياتي حينما عادوا مجبرين إلى بلادهم، ولا المشاهد المأساوية التي عاشوها طوال رحلة ترحيلهم.
“خلال الحرب العراقية الإيرانية، كنت أخشى، في المدرسة، أن يتم الكشف عن هويتي في أي لحظة، ويعرف زملائي أنني عراقي، وأنهم يجلسون على طاولة واحدة مع عدوّهم، أي الدولة التي كانت تقصف مدنهم يومياً. كنت إيرانياً وعراقياً في آن معاً، لكن لم أكن أعرف من كان على حق. كنت غريباً في المدرسة”، هكذا نقل إلينا فؤاد نجم الدين، ذكرياته من الثمانینیات.
إيرانيون بلا جنسية
لم تكن هجرة المعاودين إلى وطنهم، تعني نهاية مشكلتهم، بل كانت البداية. فبرغم مرور نحو 52 عاماً على أول رحلة ترحيل لهم، ما زال البعض منهم يعانون من عدم الحصول على الجنسية الإيرانية، وتتم معاملة بعضهم معاملة الأجانب.
في العقود الأولى، لم تمنح الحكومة الجنسيات الإيرانية للمعاودين الذين لم يكونوا حاملين وثائق ومستمسكات إيرانيةً. أما في السنوات الماضية، فتم منح الجنسية لمن استطاع إثبات أصوله الإيرانية، ومن لم ينجح في ذلك دفع رسوماً ليجدد إقامته السنوية.
التقينا علي، وهو صاحب محل بيع تمور في حي دولت آباد، فحدثنا عن أنه حصل على الجنسية برفقة عائلته منذ البداية، وذهب إلى المدرسة، بيد أنه لم يتحدث مع أحد، كونه لا يعرف سوى اللغة العربية: “هناك عدد قليل ممن لم يحصلوا على الجنسية، فأبناء خالتي في مدينة قم يعيشون حتى الآن من دون جنسية إيرانية، ولديهم مشكلات عدة منها تكاليف العلاج الباهظة”.
ويمتلك الكثير من هؤلاء جنسيتَين، عراقية وإيرانية. بعد سقوط النظام البعثي والغزو العراقي عام 2003، عاد بعضهم إلى العراق مجدداً، وبقي الكثير منهم، خاصةً من ترعرع أبناؤه في إيران، وخلق جسراً بين هويتين عربية وفارسية، إيرانية وعراقية، فالإنسان وليد بيئته. إنهم أقلية إيرانية تحاول الحفاظ على جذورها العراقية.
لم يكن هذا الجسر لأنفسهم فقط، بل أدى هؤلاء دوراً محورياً وسطياً بين الفرس والعرب، فساهموا -كلا الطرفين- في التواصل مع بعضهم بعضاً تجارياً واجتماعياً، وحتى سياسياً.
يضيف علي: “نحن الذين وُلدنا هنا، أصبحت حياتنا إيرانيةً. نمط حياتنا وسلوكنا إيراني. مع ذلك يطلق علينا الإيرانيون “عرب”، وحين نذهب إلى العرق يسموننا فُرساً. التنقل بين الحياتين؛ الإيرانية والعراقية، صعب كما قد يكون مزعجاً في أحيان، ومريحاً في أحيان أخرى. أنا راضٍ عن هذا الأسلوب، فعندما تكون هناك مباراة بين الفريقين، نشجع المنتخب العراقي تارةً، والمنتخب الإيراني تارةً أخرى”.
أما عن منطقة دولت آباد، فباتت تضم في السنوات الأخيرة بعض الجاليات من العراق وسوريا ولبنان والبحرين، لما فيها من أجواء عربية بامتياز، إذ لا يشعر العربي فيها بالغربة في قلب عاصمة الإيرانيين.
المطاعم العربية في طهران
يتوافد سكان طهران على منطقة دولت آباد، بغية تناول الوجبات العربية، فالشاورما والفلافل والكباب والسمك، ثم الكنافة والحلوى العربية، موجودة على مدار الساعة في شارع القدس الشهير. أجواء وكأنك وسط بغداد أو دمشق، من حيث المطاعم وتصاميمها.
جميع باعة شارع القدس الذي يشهد كثافةً في الزبائن عند حلول المساء، عرب، ما عدا بائع الفواكه الذي جاء من أفغانستان لاجئاً. تحدث إلينا بالعربية، وقال: “إذا كنت لا تعرف اللغة العربية، فلا يمكنك القيام بأعمال تجارية هنا”.
تحولت ثقافة الأجيال التي وُلدت في إيران عن ثقافة أسلافها، لكن آباءهم بقوا متمسكين بطريقتهم العربية في إحياء المناسبات الدينية، والمحال العربية في الحي جعلتهم علامةً تميّزهم عن باقي الإيرانيين داخل إيران.
تنمّر الإيرانيين ضد الإيرانيين العرب
لم يسلم هؤلاء الإيرانيون، جامعو الثقافتين، العربية والفارسية، من نعرات العنصريين طوال خمسة عقود. وثارت ضجة عام 2022، ضد الرحالة هدى رستمي، وهي من هؤلاء المعاودين، بسبب مشروعها السياحي في إيران، وقد نُشر عنه في موقع رصيف22.
كان سبب الاحتجاج ضد المشروع، اتهامها بأنها تلمّع صورة نظام الجمهورية الإسلامية عالمياً عبر استقبالها المؤثرين والمؤثرات من حول العالم، وتجوالها معهم في مدن إيران، وهم يتمتعون بحريات أكثر مما يعيشها المواطن الإيراني، خاصةً في ما يتعلق بالحجاب. وفي ظل التشهير الإعلامي بـهُدى رستمي، تم الكشف عن جنسيتها العراقية، فطلب البعض طردها من البلاد بحجة أنه لا يحق لها أن تعمل في إيران.
كشفت هُدى لمتابعيها أن عائلتها كردية إيرانية، وقد تم ترحيلها في عهد صدام حسين إلى إيران، وهي من مواليد طهران، وتمتلك جنسيتين: عراقية وإيرانية، ثم مُنحت جنسيةً سويديةً بسبب إقامتها هناك.
“في الأيام الأولى من المدرسة الابتدائية، دخل مساعد مدير المدرسة إلى الصف، وقال لي: أنت عراقية؟ حينها ابتعدتْ عني الطالبات. سألت إحداهن: لماذا تبتعدن عني؟ قالت: لأن والديك قتلا والدَ تلك الطالبة! كان والدها أحد قتلى الحرب، وأنا بصفتي عراقيةً لم ترَ العراق في حياتها، كنت متهمةً بالقتل”؛ هكذا شرحت هدی رستمي معاناتها في طفولتها، لذا قررت حينها أن تغيّر مدرستها، وألا تبوح بأنها تعرف اللغة العربية، ولا بانتمائها العراقي، كي تسلم من التنمر.
ظنت أن الكره والعنصرية سينتهيان، لكن بقيا يطاردانها حتى في عامها الـ35. حينها، قررت إطلاق مشروعها في سبيل إنعاش السياحة في وطنها الأصلي إيران. يبدو أن تمسكها بهويتيها العراقية والإيرانية، يحتاج إلى دفع ثمن باهظ عانت وستعاني منه طويلاً. ومثلها كُثْر.
مهدي كنجي
المصدر: موقع رصيف 22