تشكو الكنائس الغربية في الفترة الأخيرة من عزوف المؤمنين بالمسيحية عنها، وكفر بعضهم بالديانة نفسها وتفضيلهم النظر إليهم على أنهم ملحدون.
وترجع صحف ومحللون غربيون السبب في ذلك إلى انحراف الكنيسة وقساوستها عن تعاليم الدين، وممارساتهم غير الأخلاقية سواء مع رواد الكنائس بمن فيهم الأطفال والنساء.
ضحايا الكنائس
وكان آخر تلك التطورات، ما كشفه تحقيق أجرته الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية وخلص إلى أن القساوسة وموظفين التابعين لها، ارتكبوا “اعتداءات جنسية” على ما يقرب من ألف ضحية على مدى ثمانية عقود، كما أوردت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية في 2 يونيو/ حزيران 2023.
ونقلت عن تقرير صادر عن مؤتمر الأساقفة الكاثوليك الإسبان، أن 927 ضحية على الأقل أبلغوا عن تعرضهم لاعتداءات وسوء معاملة، من قبل أفراد الكنيسة.
أسباب أخرى ذكرتها وسائل إعلام غربية للعزوف عن الكنيسة الغربية منها الدخول في قضايا جدلية تحير المؤمنين بها مثل ما فعلته كنيسة إنجلترا.
وكانت كنيسة إنجلترا الأنجليكية التي تشهد عزوفا كبيرا من البريطانيين والشباب أيضا وفق استطلاعات الرأي، دخلت في دوامة جديدة عندما أعلنت في 10 فبراير/شباط 2023 أنها ستعيد النظر بـ “جنس الله” ذكر أم أنثى، بحسب موقع الإذاعة الأمريكية.
قالت إنها تدرس التوقف عن الإشارة إلى لفظ الجلالة “الله” بـ “هو”، بعد أن طلب الكهنة بالسماح لهم باستخدام مصطلحات محايدة بين الجنسين، بعدما ثار جدال بينهم حول هوية “الله” سبحانه، ما أثار سخرية البريطانيين.
وسبق أن أكد رئيس أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في إنجلترا وويلز الكاردينال كومراك ميرفي أوكونر أن المسيحية لم تعد مصدرا من مصادر التوجيه الأخلاقي في حياة الناس أو الحكومة في بريطانيا.
وأبلغ الكاردينال، مؤتمرا للقسيسين الكاثوليك أن “ما تعرضت له الكنيسة من أضرار يعود جزئيا إلى الفضائح الجنسية للكهنة”، حيث انتشر العزوف عنها “الإلحاد الضمني”، حسبما نقلت عنه الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.
وقد أكدت وكالة “رويترز” 25 مارس 2023 أن بابا روما اضطر لتغيير قواعد المساءلة داخل الكنيسة بعدما مزقت فضائح الانتهاكات سمعة الفاتيكان لتشمل كبار الكهنة المتهمين بالزنا أو الذي يغطون على هذه الممارسات الإباحية.
وبينت أن الفاتيكان بدأ منذ 30 أبريل/نيسان 2023 تعزيز مكافحة الانتهاكات داخل الكنيسة عبر قواعد إضافية.
وجاء ذلك بسبب عزوف المسيحيين عنها، وبعدما اتهمه نقاد بالتغطية على الجرائم وحماية الكهنة لعدم إهانة سمعة الفاتيكان.
وقال الفاتيكان إن أعضاء الكنيسة ملزمون بالإبلاغ عن حالات العنف ضد النساء المتدينات من قبل رجال الدين، بالإضافة إلى التحرش بالطلاب.
ومع أن قضية اعتداء القساوسة الأشهر على راهبات جرى كشفها على استحياء منذ عام 2018، لأنها مثلت قمة الكوارث الدينية الغربية، فقد فضح “وثائقي” بثه تلفزيون دويتشه فيله الألماني في 25 مايو/أيار 2023 تفاصيل أكثر عن هذه الفضيحة داخل الكنيسة الكاثوليكية.
الوثائقي أوضح أن الاعتداء الجنسي على الراهبات من قبل الكهنة والقساوسة يجرى بصورة ممنهجة، ووسط تكتم وتغاض من قيادات الكنيسة.
كشف أن الأمر وصل إلى ممارسة الكهنة والقساوسة الزنا مع الراهبات، وطردهن لاحقا من الكنيسة والأديرة بدعوى أنهن فاسقات، بعدما تجرأت بعضهن واتجهت للشكوى.
ضم الوثائقي، الذي يطفح بكم كبير من الجرائم البشعة المهمة، شهادات راهبات جرى الاعتداء عليهن، وحملن من الكهنة والقساوسة، وأجبرن على الإجهاض، وطردن من الكنيسة لإبلاغهن عن المعتدين.
وقالت إحداهن إن عدد الراهبات اللاتي حملن من كهنة بلغ 32 من أصل 50 في كنيسة رهبانية واحدة، مبينة أنها لا تعرف كم عدد من جرى الاعتداء عليهن ولم يحملن.
أما أسوأ ما في هذه القصة المفزعة، فهو ادعاء الكهنة أنهم ارتبكوا هذه الجريمة لأنها “إرادة الرب”، وهي نفس الجملة التي رفعوها وهم يعتدون على البلدان الإسلامية في الحروب الصليبية ويسفكون بموجبها دماء آلاف الأطفال والنساء.
تفاصيل الفضائح
كانت جريمة زنا الكهنة بالراهبات معروفة سرا، لكن بدأ الحديث عن الكارثة علنا حين أحرج صحفيون بابا الفاتيكان فرنسيس الثاني بالسؤال عنها، فاعترف عام 2019 بالاعتداءات الجنسية على الراهبات من طرف القساوسة والأساقفة.
ففي 5 فبراير 2019، سأل أحد الصحفيين عن تقارير حول اعتداءات جنسية من رجال دين كاثوليك، أسفرت عن إجهاض راهبات أو إنجاب أطفال من جريمة القساوسة، ليرد “فرانسيس” على السؤال معترفا بالجريمة.
قال: “هذا صحيح، هناك كهنة وحتى أساقفة فعلوا ذلك”، وأكد أنه “ملتزم بإنهاء هذه المشكلة في الكنيسة الكاثوليكية”، لكن “عبادة الجنس” داخل الكنائس والرهبانيات لم تتوقف، كما كشف وثائقي قناة “دويتشه فيله”.
إذ أكد البابا استخدام بعض رجال الدين النساء كـ “عبيد جنس”، وفق ما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” وإذاعة “نورث ويست” الأميركيتين في 5 فبراير 2019، وقالتا إنه جرى إيقاف كهنة، لكن الجريمة ظلت تُمارس، واعترف البابا أنها “مشكلة مستمرة”.
وقد أكد الناطق باسم الفاتيكان، أليساندرو جيسوتي، أن “فرنسيس” كان يشير إلى كنيسة بعينها هي “راهبات سان جان” في فرنسا التي حلها البابا السابق بنديكتوس السادس عشر “بعدما انتشرت بها العبودية الجنسية من قبل الكهنة” وفق قوله.
صحيفة “نيويورك تايمز” أكدت في 5 فبراير 2019 أن البابا اضطر للاعتراف علنا بالمشكلة لأول مرة، بعدما طغت فضائح الاعتداء الجنسي على الراهبات والنساء المتدينات من قبل الأساقفة وجرت عمليات إجهاض وولادات لأبناء الزنا.
قالت إن حالات الزنا بين الكهنة والراهبات لا تقتصر على أوروبا، ولكنها منتشرة في كل الكنائس وظهرت في دول مثل الهند ومالاوي وغيرها، كما اشتكت راهبات من اغتصابهن، وانتشار الإيدز بينهن بسبب ذلك.
وسبق أن أكد تحقيق لوكالة “أسوشيتد برس” 28 يوليو/تموز 2018 “وجود حالات إساءة معاملة راهبات في أوروبا وآسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبية، وأفاد بأن الفاتيكان لم يعاقب الجناة بشكل كاف أو يدعم الضحايا”.
أشار إلى أن الراهبات والنساء المتدينات لم يعدن يذهبن لما يسمى “الاعتراف” لدى الكاهن لأنه جرى استغلال اعترافات بعضهن عن “خطايا” لارتكاب الكهنة مزيدا من الخطايا معهن، عبر علاقات جنسية جرى إخفاؤها بدعوى “السرية والطاعة”.
وقد كشفت راهبة تُدعى “مورا أودونوهيو” أن كهنة كنيسة واحدة اعتدوا على 30 راهبة وحملن منهن سفاحا، وحين اشتكين جرى طرده!، وفق “نيويورك تايمز”.
أيضا كشف موقع “أورجانيزر” الهندي 9 يونيو 2023 أن قسيسا هنديا استغل الراهبات والنساء الهندوسيات ولم يكتف بالزنا بل وصور ممارسته الإباحية معهن ووضع الصور على حاسوب مكتبه الخاص ليشاهده كل فترة.
وقال خبراء إن العديد من كهنة الكنيسة يعانون من عقلية القرون الوسطى ويعدون القساوسة الذين يرتكبون الإساءات ضد الراهبات “ضحايا للمغريات” ويحملونهن المسؤولية بصفتهن “بالغات” ويلقون اللوم عليهن.
البروفيسور “ديماسور” الخبير في شؤون الكنيسة قال لصحيفة “نيويورك تايمز” إن الاعتداء يحدث في كثير من الأحيان خلال علاقة الإرشاد الروحي، حيث يهيئ الكاهن الضحية بمرور الوقت، كما هو الحال غالبا في حالات الاعتداء الجنسي على الأطفال.
أوضح أن “الخدمات الجنسية مطلوبة من الراهبات اللائي يعتمدن ماليا على الكهنة، كما أن تقاليد الخضوع من قبل النساء تجعلهن عرضة لسوء المعاملة”.
وتشير تقارير غربية إلى أنه عندما تختار بعض المسيحيات الدخول في سلك الرهبنة، فإنهن يلتزمن بما يسمى “نذر العفة” أي الامتناع عن أي اتصال جنسي، وذلك طلبا للقرب من الرب حسب معتقدهم.
لكن عندما يجرى الاعتداء الجنسي عليهن من رجل دين فإن كثيرات منهن يُصبن بصدمة ويتركن الكنيسة ويَكفُرن بأي إله.
الكنيسة تتأقلم
وقد كشفت وكالة “رويترز” البريطانية في 25 مارس/آذار 2023 أن حوالي 25 راهبة اتهمن الكاهن ماركو إيفان روبنيك، بأشكال مختلفة من الإساءة الجنسية ضدهن عندما كان مديرا روحيا لمجتمع الراهبات في مسقط رأسه سلوفينيا وبعدما انتقل إلى روما.
وفي 19 مايو 2023 اتهمت راهبات أميركيات، أسقفا من ولاية تكساس بـ “الشر المطلق” بعد أن أغلق ديرهم واتهم كبيرة الراهبات بأنها كانت تمارس الجنس مع كاهن سرا، وخالفت بذلك “نذور العفة” وفق “وكالة الأخبار الكاثوليكية”.
رفعوا دعوى قضائية ضد الأسقف مايكل أولسون من أبرشية فورت وورث بعد أن أمر بمصادرة أجهزة كمبيوتر وهاتفا ومنع الكهنة من إقامة قداس في ديرهم بعد اتهامه رئيسة الدير تيريزا أغنيس جيرلاخ بأنها “زنت وخالفت نذر العفة”.
وقد كشف موقع “ديلي بيست” 7 أكتوبر/تشرين أول 2021 أن الأمر لا يقتصر على ممارسات جنسية ينفذها الكهنة مع الراهبات، بل إن هناك راهبات عهد لهن برعاية طالبات في مدارس كنيسة وأديرة نفذن أعمالا منحرفة مع الطالبات.
أوضح أن الراهبات في دير فرنسي اغتصبن الفتيات باستخدام “الصلبان” أو أجبرنهن على ممارسة الجنس معهن، وتسترت الكنيسة عليهن.
وبسبب انتشار هذه الفضائح على نطاق واسع، كتبت “لوسيتا سكارافيا”، إحدى العاملات في المجلة النسائية للفاتيكان (Women Church World) مقالا في فبراير 2019 تفضح ما يفعله الكهنة والقساوسة مع الراهبات.
لكنها قالت لشبكة التلفزيون الأميركية ” nbcnews” في 26 مارس 2019 إنها اضطرت هي وطاقم التحرير كله للاستقالة، بسبب ضغوط متزايدة من “رؤساء وسائل الإعلام بالفاتيكان” عليهن بعدما شجبن هي وزميلاتها الاعتداء الجنسي على الراهبات من قبل رجال الدين.
ونالت تطورات عدة الكنيسة الغربية في السنوات الأخيرة ربما بهدف استعادة من ابتعدوا عنها، و”التأقلم” مع الثقافة الشعبية حتى ولو كانت مخالفة للمسيحية، ما شجع الكهنة على الانحراف.
فقد غير بابا الفاتيكان فرنسيس موقفه من الشواذ، ومهد لـ “شرعنة” الكنيسة الكاثوليكية، للشذوذ الجنسي يناير/كانون ثان 2023.
وفتح الباب أمام مراجعة قواعد الكنيسة الكاثوليكية بشأن العزوبية الكهنوتية وفقا لما ذكرت صحيفة “التايمز” البريطانية 13 مارس 2023، بغرض محاولة احتواء شذوذ الكهنة وممارساتهم الكنسية الاستعبادية للراهبات.
وكان البابا قال خلال مقابلة مع مجلة “إنفوبي Infobae” الأرجنتينية 10 مارس 2023، بمناسبة الذكرى العاشرة لجلوسه على عرش الفاتيكان، إنه لا يوجد أي تناقض بين زواج الكاهن وخدمته الكنسية.
ورأى أن العزوبية في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية هي “وصفة مؤقتة”، وسمح بالتالي للكهنة بالزواج حتى ولو كان يهدم بذلك ركنا كهنوتيا جديدا.
ولأن جرائم الكهنة والقساوسة تزايدت فقد ظهرت دلالات وتداعيات لذلك على عزوف الغربيين عن الكنيسة وخروجهم من المسيحية التي تعاني في الغرب خصوصا من الانحسار.
مجلة “إيكونوميست” البريطانية ذكرت في تقرير 14 يونيو 2022 أن هناك تخليا وعزوفا عن الكنيسة بسبب جرائم القساوسة.
أكدت أن “أتباع الكنيسة لم يعودوا يثقون في مؤسسة تأوي معتدين”، ودعت لإلغاء شرط العزوبية للقساوسة كي يتزوجوا ولا يعتدوا على الراهبات.
وشددت على أن هذا “سيؤدي أيضا إلى إبطاء وتيرة مغادرة المؤمنين للكنيسة، بعد أن بدأ البعض التخلي عنها”.
إسماعيل يوسف
المصدر: صحيفة الاستقلال