كما كان متوقّعاً، أطلق جيش الاحتلال العنان لمستوطنيه عقب العملية الفدائية التي شهدتها مستوطنة «عيلي»، ليهاجم هؤلاء بأسلحتهم القرى والبلدات والمركبات الفلسطينية على طول الطريق الواصل بين رام الله وشمال الضفة الغربية، حتى ساعات فجر يوم الأربعاء. وفي وسط الضفة وشمالها أيضاً، شنّ المستوطنون عشرات الهجمات الإرهابية، مستهدفين منازل الفلسطينيين وأراضيهم ومركباتهم، وخصوصاً في بلدات حوارة واللبن وعوريف ويتما وترمسعيا الواقعة في محيط محافظة نابلس، والتي اقتحمها المستوطنون بالرصاص الحيّ وقنابل الغاز المسيل للدموع، وأضرموا النار بكلّ ما وقعت أيديهم عليه فيها، في ليلة بدت شبيهة بما جرى قبل 3 أشهر في بلدة حوارة.
وجاءت عملية «عيلي» لتشكّل صفعة لجيش الاحتلال ومنظومته الأمنية والاستخبارية، التي كانت في ذروة استنفارها في الضفة بعد العدوان على مخيم جنين، ولتزيد الأعباء على كاهل حكومة الاحتلال المشغولة بتفكيك لغز العبوات الناسفة، وإيجاد الطريقة الأمثل للتعامل معها، ولا سيما في ظلّ تصاعد ضغوط اليمين لشنّ عملية عسكرية واسعة في شمال الضفة، لا تزال ترفضها الجهات الأمنية. كما شكّلت هذه العملية نقطة تحوّل نوعية في أداء المقاومة في الضفة، لأسباب عدّة، زمانية ومكانية، على رأسها أنها أعقبت بساعات فقط العدوان على مخيم جنين واقتحام المسجد الأقصى والاعتداء على المصلّين فيه، واستهدفت مكاناً يُعَدّ قلب الاستيطان في الضفة، الذي يشهد حضوراً عسكرياً دائماً لجيش الاحتلال. هكذا، وبعدما اختبر العدو استعداد المقاومة في مخيم جنين لمواجهة أيّ اقتحام أو اجتياح بالعبوات الناسفة، وصلت رسالة المقاومين إليه بأنهم جاهزون لتنفيذ الردّ على مجازره وبشكل سريع، فيما يبدو أن هجوم «عيلي»، الذي خلّف 4 قتلى من المستوطنين، قد يمهّد لسلسلة عمليات أخرى، في ظلّ تأكيد فصائل المقاومة أن «القادم يفوق توقعات الاحتلال»، وهو ما بدأت بوادره مع عملية إطلاق نار في المكان نفسه صبيحة الأربعاء.
واجتمعت عدّة مؤشّرات على كون «عيلي» غير منفردة، بل منظّمة ومخطّط لها جيّداً. وتَقدّم تلك المؤشّرات، استخدام منفّذَي العملية سلاحاً آلياً (M16) سبّب هذا العدد الكبير من القتلى والإصابات في صفوف المستوطنين. كما أن اختيارهما المكان والتوقيت وآلية التنفيذ، وتمكّن أحدهما من الانسحاب من المكان وقطع مسافة تزيد على 50 كلم، أظهرا جرأة ميدانية وتكتيكاً وتدريباً مسبقاً. يُضاف إلى ذلك، اعتراف جيش الاحتلال بأنه لم يملك أيّ معلومات أو يتلقّ تحذيرات بشأن العملية، ما يُشير إلى أن المنفّذَين كانا خارج دائرة المتابعة والملاحقة، وهو ما يُضاعف الفشل الاستخباري الإسرائيلي، ويفرض سيناريوات تكرّر الهجوم، وخصوصاً أن حركة «حماس»، التي تبنّته، أكدت، على لسان رئيس مكتبها السياسي، أن «هذا أول الغيث وما ينتظر العدو أشدّ وأخزى». وإذ حملت الساعات الماضية مؤشّرات إلى توجّه المقاومة إلى الانتقال من حالة الدفاع والتحصّن إلى الهجوم، وفق ما أنبأ به كمين العبوات الناسفة في مخيم جنين، ومن ثمّ عملية «عيلي»، فإن استشهاد شابَّين وإصابة ثالث في مخيم بلاطة فجر أمس، بانفجار عبوة ناسفة أثناء إعدادهم إيّاها، يمكن إدراجه أيضاً في سياق تطوير الإمكانات المستمرّ.
في المحصّلة، فشلت إسرائيل في اجتثاث المقاومة عبر عملية «كاسر الأمواج» التي بدأتها منذ آذار 2022، فيما تُواجه اليوم ارتداداتها على شكل موجات «تسونامي» من العمل الفدائي، لا تفتأ تخصم من قوة ردعها في الضفة، وتطرح تساؤلات كثيرة حول السيناريوات المتوقَّعة مستقبلاً. وفي هذا السياق، يرى مدير مركز «يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية»، الباحث سليمان بشارات، في حديث إلى «الأخبار»، أن «ما قامت به المقاومة خلال اليومين الماضيين سيكون له تأثير كبير على طبيعة ومستوى القرارات التي ستّتخذها حكومة الاحتلال».
وإذ يُذكّر بأن «إسرائيل قائمة على معادلة الردع، ودائماً ما ترى أن تفكيك البنية التحتية للمقاومة هو مهمّتها لتثبيت ذلك الردع»، فهو يعتقد أن «ما جرى من تصاعد لأعمال المقاومة يعيد الاحتلال إلى المربّع الأول؛ فإسرائيل شنّت عملية السور الواقي قبل 21 عاماً من أجل تحطيم البنية التحتية للمقاومة، لكنها اليوم ترى أن ما قامت به خلال 20 عاماً لم يعُد قائماً، ومعه فشِل المسار الأمني الذي اتّبعته تجاه الفلسطينيين، وفشلت أيضاً السياسات الاقتصادية والأمنية التي روّجت لها الإدارات الأميركية المتعاقبة، سواء من خلال كيث دايتون ومَن خلفه أو بدعم الحلول الاقتصادية».
ويلفت بشارات إلى «وجود حالة تخبّط ولايقين لدى حكومة الاحتلال، حول كيفية مواجهة المقاومة، وترميم صورة الكيان التي اهتزّت في المنطقة وليس في فلسطين فقط»، مستدركاً بأن «إسرائيل ستلجأ في نهاية المطاف إلى الخيار الأمني وفق عدّة سيناريوات»، يفنّدها الباحث بما يأتي: «السيناريو الأوّل (السريع)، والذي بدأت به إسرائيل بالفعل، يتمثّل في اقتحام منازل الشهداء وتفجيرها ومعاقبة المقرّبين منهم، وكذلك تنفيذ عمليات اعتقال شاملة وواسعة تطال رموزاً فلسطينية وناشطين ومحسوبين على تنظيمات معيّنة، وخصوصاً حماس التي تبنّت العملية، في محاولة لطمأنة الجمهور الإسرائيلي»؛ والثاني، هو «تنفيذ عمليات عسكرية بخصائص محددة، لن تكون شاملة على غرار ما حدث في 2002، أي أنها قد تتركّز على بقعة جغرافية محدودة، مثل الشروع بعملية في مخيم جنين فقط، لكن هذا الخيار يحمل في طيّاته محاذير عديدة تجعل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ترفضه؛ فهو قد يتسبّب بزيادة الخسائر الإسرائيلية، أو ارتقاء عدد كبير من الشهداء والتسبّب بدمار كبير يمكن أن يشعل الشارع الفلسطيني برمّته، وبالتالي خروج الأمور عن السيطرة»؛ وأمّا الثالث، والذي يستبعده بشارات، ولكن يرى أن إسرائيل تعمل عليه بقوة، «فهو يتعلّق بشنّ عمليات تصفية لكبار الشخصيات الفلسطينية في الدول العربية والإقليم وغزة في محاولة لتحقيق إنجاز، وصورة انتصار».
ويشير بشارات إلى أن «هناك فجوة استخبارية لدى أجهزة الاحتلال، تتعلّق بطبيعة المعلومات حول المقاومة وإمكاناتها، في وقت يشهد فيه العمل المقاوم تغييرات ويعتمد آليات عمل مختلفة»، مضيفاً إن «ما يقلق إسرائيل هو عدم وجود هيكلية تنظيمية واضحة ومعلَنة للخلايا، وفي الوقت نفسه احتمال وجود هيكلية متكاملة كهذه يمكن أن تعزّز القدرات القتالية وتوفّر الدعم المالي واللوجستي، وتستقطب مشاركة شعبية واسعة، وهذا آخر ما يريده العدو». من هنا، تُسابق إسرائيل الزمن، منذ بداية العام، عبر تكثيف عمليات الاقتحام والاغتيال، لمنع تشكّل أيّ حالة من هذا النوع، وتعزيز ميزان الردع، وفق بشارات، الذي يلفت أيضاً إلى «اهتمامها بقتل صورة البطل، ولذلك اغتالت المنفّذ الثاني لعملية عيلي، على رغم أن قواتها كانت قادرة على اعتقاله». أما بشأن تأثير تطور المقاومة في الضفة على انشغال إسرائيل بالجبهات الأخرى، فيبيّن أن «الضفة مختلفة عن أيّ ساحة أو جبهة أخرى، فهي الوحيدة التي تضطرّ إسرائيل إلى التعامل معها ميدانياً ودفع جنودها وقواتها إلى الأرض، بينما بقية الساحات يمكن التعامل معها من خلال الطيران أو القصف المدفعي، ولذلك تبقى الجبهة الأكثر إقلاقاً للكيان»، مضيفاً إن «إسرائيل تخشى من أن يكون هناك حَراك على أكثر من جبهة، وهي تعمل جاهدة على تحييد الجبهات وتفريقها بعضها عن بعض، باستخدام استراتيجيات وأدوات مختلفة».
أحمد العبد
المصدر: صحيفة الأخبار