حين يُمسي التفلّت الأمني هو الغالب والسائد في دولة اللا قانون واللا مساواة، تصبح المناطق الأكثر ابتعاداً عن الدولة هي الأصعب عيشاً، وأضيق أملاً. حينذاك، يبقى خيار الأكثرية الوحيد، التي لا تأتلف مع منطق القوة، الرحيل عن الموطن ومسقط الرأس الذي تتحكم بمصيره القلّة التي تخالف القانون، وتطلق النار، وتسرق وتتسلّط على مصالح المواطنين. هذا هو حال اللبنانيين مع بعض المخالفين في ضواحي المدن، سواءً في ضاحيتَي بيروت الجنوبية والشمالية أو في المناطق المتاخمة لطرابلس أو البقاع، حيث لا يقبل أيّ منطق سديد باستمرار الشغور السلطويّ لسطوة الدولة، ويرتكب المخالفون العنف على الأشخاص وممتلكاتهم
حين حُدّدت التنظيمات الإدارية لدولة لبنان الكبير بموجب قرار المفوّض السامي رقم 336 تاريخ 01/09/1920، تقسّمت الدولة إلى أربع متصرفيات وبلديتَين مستقلتَين هما بيروت وطرابلس وضواحيهما وجُعِلتا مدينتَين ممتازتَين.
لذلك أعلن المفوض الفرنسي في عام 1941 قراره رقم 79 بشأن منح مدينة بيروت الممتازة امتيازاً إدارياً. كان الهدف أن تمارس لجنة المدينة الممتازة الاختصاصات المنوطة بالمجلس الإداري في مناطق الدولة اللبنانية الأخرى. إذ تخضع هذه المدينة الممتازة إدارياً إلى نظام إداري خاص، ولكن أُهمِلت ضواحي هاتَين المدينتَين وأصبحت «منسيّة».
تعداد ضواحي بيروت
لم تأتِ التنظيمات الإدارية على ذكر الضواحي في بيروت، إلا عندما قررت منح امتياز للطاقة الكهربائية، فكان لا بد من تعداد القرى حفظاً لحقوق صاحب الامتياز. وذُكر ما يسمّى «ضواحي بيروت» في المادة الأولى من دفتر الشروط المختص بامتياز توليد القوة الكهربائية للتنوير وللقوة المحركة في مدينة بيروت الصادر عام 1931 (المرسوم رقم 7900). وشملت ضواحي بيروت وفق المرسوم القرى والمحلات الآتية: برج البراجنة والتحويطة وحارة حريك والشياح وبئر حسن والأوزاعي وفرن الشباك والحازمية وجسر الباشا والزعاتر وسن الفيل وبرج حمود والبوشرية.
إهمال الضواحي مقابل غضّ البصر
كانت الحكومات تنتهج، منذ العشرينيات، نهج الإهمال الإنمائي تجاه الضواحي، وتسمح بالمقابل لقاطني هذه الضواحي بمخالفة القوانين عبر غضّ البصر عنهم، وكانت المعادلة قائمة على المبدأ التالي: «مظاهر الدولة غير الحاضرة إنمائياً، تغيب أمنياً أيضاً». فتسمح لهم بالبناء عشوائياً، مثلاً، على قاعدة أن المناطق المحيطة لن تتضرّر بمخالفاتهم، وكأن القاعدة الرعناء تنطلق من أن الصرف الصحي يُحوّل إلى البحر، والبحر يتّسع للجميع!
تميّزت ضواحي المدن في لبنان، سابقاً، بأنها أحزمة بؤس. ولكن الواقع لم يعد كذلك، فباتت البلاد اليوم كلها بائسة، وأصبحت الضواحي مدناً قائمة بذاتها.
حين تطورت الضواحي وجرى إنماء الخدمات العامة فيها، بدأ قاطنوها يشعرون ببعض مظاهر الدولة الغائبة سابقاً، إلى أن شكّل الإنماء عدداً من الأحياء الراقية وأصبحت الضواحي تضمّ قسمين: الأول شبيه بالمدن، والثاني يتمثّل بالأحياء الشعبية التي تتميّز بغياب الدولة المطلق. بعد صدور قانون «تجريم إطلاق عيارات نارية في الهواء»، رقم 71 تاريخ 27/10/2016، استبشر قاطنو هذه المناطق خيراً، ولكنه لم يزهر رغم مرور سبع سنوات. ويعود ذلك إلى اعتقاد المشترعين أن إصلاح الحال يكون بوضع القوانين، في حين أن تطبيق قانون الأسلحة والذخائر وقانون العقوبات أو قانون الدفاع كان يمكن أن يصلح الحال.
قد لا تُلام أجهزة الدولة المركزية في الدول على غيابها عن أطرافها النائية حين تمتد على مساحات تصل إلى ملايين الكيلومترات، ولكن في لبنان تغيب الدولة عن الـ10452 كيلومتراً مربعاً وتحضر فقط أمنياً حيث تشاء.
رغم أن الأمن ليس المظهر الوحيد للدولة، إلا أنه أحد أهم مظاهرها، لا بل هو الضمانة لطمأنينة الأُسر، والضمانة للاستثمار حتى اقتصادياً.
في خلاصة القول، يقتضي التأكيد أنه حين ينحسر العدل ويتلاشى سلطان الحكم وتضعف سطوة الأخلاق تصبح البلاد تحت حكم شريعة الظلم، لا شريعة الغاب فحسب.
صادق علوية
المصدر: ملحق القوس من صحيفة الأخبار