يقف حزب الله اليوم أمام منعطف آخر فيما يسعى إلى الحفاظ على موقعه داخل الدولة اللبنانية المتغيّرة.
وجّه استعراض قوة حزب الله العسكرية في بلدة عرمتى الجنوبية في 21 أيار/مايو الفائت رسائل عدة، ولا سيما لإسرائيل. ففي ظل اتفاقات المصالحة التي شهدتها المنطقة، أولًا بين السعودية وإيران ثم التقارب بين السعودية وسورية، يبدو أن حزب الله عاد ليوجّه تركيزه مجدّدًا نحو عدوّه في الجانب الآخر من الحدود الجنوبية. وقد ظهرت مؤشرات على ذلك في أوائل نيسان/أبريل حين أطلقت مجموعة غير محدّدة (بموافقة حزب الله لا شك) ما لا يقل عن 34 صاروخًا من لبنان باتجاه شمال إسرائيل، ما ولّد تكهّنات بأن الحزب يسعى إلى توحيد جبهات لبنان وغزة وسورية.
بغضّ النظر عن سلاح حزب الله، هل يملك فعليًا ما يلزم لخوض حرب مع إسرائيل اليوم؟ إن الدمار الذي سينجم عن ذلك سيكون مهولًا وقد يسفر عن ردود فعل مُزعزعة للاستقرار داخل لبنان في أوساط سكان لم يعد لديهم الكثير ليخسروه. لذا، يمكن طرح سؤال أطول أمدًا عن حزب الله، هو التالي: ما هي غايته النهائية؟ مثلما كشف قرار مشاركته في الانتخابات النيابية في العام 1992 عن رغبته بأن يصبح أحد مكوّنات الدولة اللبنانية، يقف حزب الله اليوم أمام منعطف آخر. فعليه الآن، باعتباره طرفًا بارزًا، أو بالأحرى الطرف البارز في لبنان، أن يقرّر ما الذي يريد أن يفعله بالدولة، وداخل الدولة، كي يحافظ على موقعه في المعادلة.
لا تزال الإجابة بعيدة المنال. فكل الخيارات المحتملة التي قد تراود حزب الله تطرح مخاطر له. إذا كان هدف الحزب الوحيد هو الاستمرار في دوره كوكيلٍ لإيران، فستتمثّل أولويته في الإبقاء على سلاحه وفرض حالة من الجمود في لبنان تضمن عدم تعرّض سلطة الحزب لأي تهديد. لكن سيؤدّي ذلك إلى تداعيات سلبية، من خلال تأجيج الاستياء المحلّي الذي تفاقمه النزعات الطائفية، فيما يحاول الحزب الحفاظ على تفوّقه ويدعم في الوقت نفسه نظامًا متداعيًا إلى حدٍّ كبير ومقاومًا للإصلاحات. لا يستطيع حزب الله أن يُبقي سائر البلد تحت سطوته إلى ما لا نهاية.
على سبيل المثال، من خلال تبنّي حزب الله رسميًا ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، اتّخذ الحزب خطوة غير معهودة إذ حاول فرض رئيس مسيحي ماروني على الطائفة المارونية التي تعارض جميع أحزابها السياسية الرئيسة بشدة ترشيح فرنجية. تشير التقارير الصادرة في اليومَين الماضيَين إلى أن الأحزاب الثلاثة الأساسية، وهي القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر وحزب الكتائب، اتّفقت على دعم مرشّح منافس لفرنجية هو الوزير السابق جهاد أزعور الذي يتولّى راهنًا منصب مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي.
سنرى ما ستؤول إليه هذه الخطوة، لكن الأكثر دلالةً كان الردّ الصادر عن رئيس كتلة حزب الله محمد رعد على هذا الترشيح، إذ أعلن في 28 أيار/مايو، والغضب بادٍ عليه، أن أزعور هو مرشح “البعض في لبنان الذين يملكون الوقاحة اللازمة للتصريح علنًا برفضهم وصول مرشح للممانعة، في مقابل رضاهم بوصول ممثل الخضوع والإذعان والاستسلام”. أتت رسالة رعد واضحة: فالحزب مستعدٌّ لخوض حوار حول الاستحقاق الرئاسي، شرط أن يدافع الرئيس عن أولويات الحزب. تسبّب مساعي الحزب لفرض مرشّحيه في مناصب غير مخصّصة للطائفة الشيعية استياءً عارمًا في الدوائر غير الشيعية، ولا شكّ أن هذا الشعور سيتنامى في المستقبل.
ثمة خيار ثانٍ أمام حزب الله يتمثّل في إعادة تشكيل نفسه للإبقاء على هيمنته في ظل نظام اجتماعي وسياسي لبناني متغيّر. في هذه الحالة، قد يتعيّن على الحزب البدء جديًّا بالمساومة مع نظرائه الطائفيين والسياسيين، لكن ليس لتغيير النظام السياسي الذي يهيمن عليه الحزب، بل للحفاظ عليه. وسيشمل ذلك اتّخاذ خطوات فعلية لمعالجة قضايا جوهرية بالنسبة إلى الحزب، مثل سلاحه وتدخله في الصراعات الإقليمية، لكن بشكلٍ تسهم من خلاله التسويات الناشئة في ترسيخ أهداف حزب الله داخل النظام اللبناني.
من المستبعد للغاية أن يختار حزب الله هذا المسار. كان هذا نوعًا ما المنطق الكامن خلف سياسات البيريسترويكا التي انتهجها ميخائيل غورباتشوف في الثمانينيات، والتي اعتبر المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي أن نتيجتها كانت انهيار الاتحاد السوفياتي. لا بدّ من أن حزب الله يدرك أيضًا أنه بمجرد أن يبدأ تقديم التنازلات بصورة انتقائية في قضايا محدّدة، قد يفقد سيطرته على الديناميكيات ويُرغَم على التخلّي عن أمور أكثر بكثير مما قد يريد. لكن سلوك الحزب مضى في الاتجاه المعاكس، إذ حاول توسيع المجالات التي يمكنه فيها فرض اهتماماته الاستراتيجية على لبنان، بغضّ النظر عمّا يعنيه ذلك للسياسات الطائفية الداخلية.
أما الخيار الثالث أمام حزب الله فهو أشدّ خطورةً بعد، ويتمثّل في ذهابه إلى أبعد حدٍّ في محاولة إعادة تشكيل عقد اجتماعي لبناني جديد يتمحور حول مصالحه الخاصة وتحقيق استقراره، بهدف ترسيخ سلطته في الدولة إلى أجل غير مسمّى. يعني ذلك إعادة هيكلة النظام الدستوري والطائفي، والسيطرة على المؤسسات من خلال بلورة ميثاق وطني جديد يمنح الطائفة الشيعية المزيد من السلطة، ما يُفسح المجال أمام حزب الله لإقامة حواجز دائمة لحماية تفوّقه في البلاد.
لكن هذا المخطّط قد يؤدي إلى تشظّي لبنان، إذ إن الطائفة المسيحية الأوسع ستكون الخاسر الأكبر من الميثاق الوطني المعدّل. وفيما يتداول المسيحيون علنًا الحديث عن الفدرالية، أو حتى عن التقسيم، فإن إرساء عقد اجتماعي جديد يتمحور بشكل أساسي حول الطائفتَين الأكبر في البلاد، أي السنّة والشيعة، سيُفضي بشكل شبه مؤكد إلى شعور الكثير من المسيحيين بحالةٍ من الغربة النفسية. وستترتّب عن هذا السيناريو تداعيات تشمل تعبئة مسيحية أكبر ضد التغيير، تليها هجرة طائفية أكبر من البلاد، فيضطرّ حزب الله والشيعة إلى خوض مواجهة في المقام الأول ضد طائفة سنّية لا نية لها في تحويل لبنان رسميًا إلى وكيلٍ لإيران.
لكن إقدام حزب الله على تعديل الميثاق الوطني اللبناني لصالحه قد يتطلّب منه تقديم تنازلات كبيرة للطوائف الأخرى، من بينها منح المسيحيين لامركزية إدارية ومالية واسعة، ووضع استراتيجية جديدة للتعامل مع السنّة الذين يشكّلون الآن على الأرجح غالبية في البلاد وسيرغبون في تعزيز سلطتهم داخل المؤسسات الوطنية. ستكون عمليةٌ من هذا النوع معقّدة ومحفوفة بالمخاطر لحزب الله، ويبدو من المستحيل تخيّل ألّا يطالب السنّة بنزع سلاح حزب الله كشرط مسبق للموافقة على منح الشيعة دورًا أكبر في الدولة. لا يمكن أن يولد أي ميثاق جديد من وضعٍ يُنظر فيه إلى طائفة معينة على أنها تملك سلطات مهيمنة على الصعيد الوطني.
هذا ما لا يُدركه حزب الله تمام الإدراك. فالسياسات الطائفية في لبنان ستكون دائمًا أقوى من أي التزام إيديولوجي بـ”المقاومة” أو مبدأ آخر مماثل. علاوةً على ذلك، تتسبّب الثقة المفرطة التي يُبديها الحزب وهو يحاول التأكيد على الخيارات التي يفضّلها بإثارة مخاوف وجودية في أوساط أقليات لبنانية أخرى. وفي ظل غياب هيكلية مؤسّساتية فعّالة لتوجيه هذه المخاوف ومعالجتها، فقد تكون النتيجة الانزلاق إلى العنف. وهذا الخيار هو الأسوأ لحزب الله لأنه قد يُغرقه في حرب أهلية مفتوحة سيحاول الكثير من خصومه الإقليميين والدوليين استغلالها لصالحهم.
لا يبدو حزب الله قلقًا حيال هذه الأمور، فأسلحته تكسبه ثقة كبيرة بالنفس. لكن الحرب لا تُعتبر خيارًا له، لأنه لم يستطِع بناء أي أُسس دائمة على الأنقاض. واقع الحال أن النظام الطائفي يبقى، على الرغم من العيوب التي تشوبه، الحصن المنيع الأقوى في وجه حزب الله. لهذا السبب، يحاول الحزب بشكل متواصل زعزعة توازن خصومه الطائفيين وإبقائهم منقسمين. يشرح هذا الأمر سبب انزعاج محمد رعد الكبير من احتمال وقوف المسيحيين صفًّا واحدًا ضد فرنجية. قد تكون للوقائع الطائفية قريبًا الغلبة على حزب الله، وهذا وضع لا يستسيغه الحزب.
مايكل يونغ – مدير التحرير في مركز مالكوم كير – كارنيغي للشرق الأوسط
المصدر: مركز مالكوم كير – كارينغي للشرق الأوسط