سانتياغو بينيا … وارث رئاسة الباراغواي يعيش هم إرث «عرّابه» وداعمه السياسي

Spread the love
image_pdfimage_print

مصرفي يميني تقلقه العلاقة المستقبلية مع واشنطن


المفاجأة الوحيدة التي حملتها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي شهدتها الباراغواي أخيراً، لم يكن فوز سانتياغو بينيا مرشّح «الحزب الأحمر/الملّون» اليميني الذي يهيمن على المشهد السياسي في البلاد منذ أكثر من 75 سنة، بل الفارق الكبير الذي فاز به على منافسه اليساري، وحصول هذا الحزب للمرة الأولى في تاريخه على الغالبية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن فوزه بحاكمية 15 من أصل 17 دائرة. مع هذا، وعلى الرغم من الفوز الكاسح الذي حققه الرئيس الجديد، الذي سيتسلم مهامه مطلع أغسطس (آب) المقبل وهو لا يزال في الرابعة والأربعين من عمره، تواجه ولايته سلسلة من التحديات والعقبات. وليس التحدي الأقل بينها العلاقات المُلتبسة مع الحليف الرئيسي الولايات المتحدة، وبخاصة، بعدما فرضت الإدارة الأميركية في مطلع العام الجاري عقوبات على الرئيس الأسبق أوراسيو كارتيس، «عرّاب» بينيا وداعمه الأكبر، وطلبت تسليمه لمحاكمته بتهم الفساد والتعامل مع منظمات إرهابية.

سانتياغو بينيا هو أصغر رئيس جمهورية في تاريخ الباراغواي. وهو تكنوقراطي بامتياز إذ سبق له أن تولّى حقيبة المال في حكومة الرئيس الأسبق أوراسيو كارتيس بعدما كان نشاطه المهني مقتصراً على وظائف استشارية في المصرف المركزي الوطني وصندوق النقد الدولي، الذي التحق به في أعقاب حصوله على درجة الماجستير من جامعة كولومبيا العريقة في نيويورك، ومن ثم، إدارة أحد المصارف التي يملكها كارتيس الذي – إلى جانب نفوذه السياسي الواسع – يعد من أكبر الأثرياء في الباراغواي ويملك شبكة مترامية من المؤسسات الناشطة على امتداد أميركا اللاتينية.

ثم أن بينيا، إبان عضويته لمجلس إدارة المصرف المركزي، برز بين زملائه كصاحب أفكار جديدة وجريئة نادراً ما وجدت طريقها إلى التطبيق – كما يقول بعض الذين واكبوه آنذاك – لكن «الوصمة» التي لازمته منذ ذلك الحين، والتي كرّرها خصومه السياسيون طوال الحملة الانتخابية الرئاسية، أنه ينتمي إلى نخبة ضئيلة منفصلة عن واقع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها الباراغواي… ثم أنه أداة طيّعة بيد الزعيم اليميني والرئيس الأسبق كارتيس الذي يعتقد كثيرون أنه سيكون الرئيس الفعلي للبلاد.

في المقابل، فإن الذين رافقوا مسيرته في السنوات الثلاث المنصرمة يقولون عنه إنه «براغماتي… لا يسعى لإحداث ثورة في بلد ترسّخت فيه الأساليب الاجتماعية والاقتصادية التقليدية، بل سيحاول تطوير النظام السائد انطلاقاً من برنامج توافقي سبق أن أعلن مراراً أنه يريده ميثاقاً وطنياً يتبناه أكبر عدد ممكن من القوى السياسية». وما يذكر أنه في أول تصريح للرئيس الجديد الشاب بعد انتخابه، قال «هذا ليس انتصاراً شخصياً، بل هو انتصار الشعب الذي اختار طريق السلم الاجتماعي والحوار والأخوة والمصالحة الوطنية كي نواجه معاً التحديات العديدة للنهوض بالاقتصاد بعد سنوات من الصعوبات. لقد أزف الوقت كي نؤجل خلافاتنا وصراعاتنا، ونعطي الأولوية للقضايا التي تجمعنا حول مصلحة الوطن العليا».

النشأة والمسيرة

ينتمي سانتياغو بينيا (44 سنة) إلى عائلة ميسورة كانت له سنداً قوياً لمواصلة تحصيله العلمي بعدما أصبح أباً وهو لا يزال دون السابعة عشرة من عمره. ويقول المقربون منه إن تجربة الأبوّة المبكرة تركت أثراً عميقاً في تكوين شخصيته من حيث تحمّله المسؤولية في سن يافعة، ويردد هؤلاء أنها كانت مرحلة صعبة في حياته ساعدته على رسم طريق واضح لطموحاته، وعلمته «الالتزام والنزاهة، وأن خدمة الذين يعتمدون علينا هي أنبل القضايا التي يمكن للمرء أن يكرّس لها حياته»، كما جاء في تصريح له أخيراً. وبالمناسبة، يدافع بينيا عن العائلة بمفهومها التقليدي المحافظ، فيرفض الإجهاض وزواج المثليين، وقد تعهّد في برنامجه الانتخابي بتعديل التشريعات التي قال إنها «تشرع الأبواب أمام التراخي في ضبط السلوك الأخلاقي للمجتمع».

في المقابل، رغم خبرة بينيا الضئيلة في المجال السياسي، فإنه ليس حديث العهد على المعارك الانتخابية، إذ سبق له أن حاول الفوز بترشيح حزبه اليميني للانتخابات الرئاسية عام 2017، لكنه خسر أمام منافسه الرئيس الحالي ماريو عبده، الذي يتزّعم التيار المناهض لداعمه كارتيس داخل الحزب. وهذه المرة، جاء ترشيحه حلاً توافقياً وثمرة «هدنة» بين كارتيس وعبده بعدما تعذّر على كليهما فرض سيطرته كاملة على الحزب، الأمر الذي هدد بصعوبات وعقبات تنتظره حتى على الجبهة الداخلية التي من المفترض أن تؤمن له الاستقرار… بعد حصول الحزب على الغالبية في مجلسي الشيوخ والنواب.

تعهّد بينيا في برنامجه الانتخابي وضع سياسات «ليبرالية» لتشجيع الاستثمارات الخارجية في القطاعات الإنتاجية الرئيسة مثل الزراعة والصناعات الغذائية، وخفض الضرائب بالتركيز على إيجاد فرص العمل… إذ تشكّل البطالة المرتفعة في البارغواي «كعب أخيل» الاقتصاد الذي يتباطأ نموه باطراد منذ سنوات برغم القدرات والموارد الكبيرة التي تزخر بها البلاد. ثم بعد فوزه، وجهت إليه الإدارة الأميركية التهنئة في بيان قالت فيه إنها تتطلع إلى التعاون معه لتحقيق أهداف مشتركة مثل مكافحة الفساد والإفلات من العقاب وتعزيز سيادة القانون والنهوض بالاقتصاد. وفي ذلك إشارة واضحة إلى طلب تسليم كارتيس إلى القضاء الأميركي بعد توجيه التهم إليه بالتعامل مع منظمات إرهابية، من بينها «حزب الله» اللبناني. وكان أنصار كارتيس في الحزب قد استغلّوا العقوبات الأميركية المفروضة عليه لمهاجمة الولايات المتحدة خلال الحملة الانتخابية، واتهامها بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد بهدف منع وصول بينيا إلى الرئاسة، ما ساعد على تعبئة مؤيديه واستقطاب كثيرين من المترددين في حسم خيارهم الانتخابي.

مواقف حزبية وسياسية

خلال الحملة الانتخابية جهد بينيا للنأي بنفسه عن الرئيس الحالي ماريو عبده، الذي سيسلمه السلطة مطلع أغسطس (آب) المقبل، بعد تراجع شعبية عبده كثيراً في الفترة الأخيرة بسبب سوء إدارته جائحة «كوفيد – 19» والخلافات التي نشبت داخل الحزب على عهده، وبالذات، مع جناح الرئيس الأسبق كارتيس الذي أهداه بينيا الفوز بالرئاسة، وشكره على دعمه، قائلاً له: «دورك لا يقابل إلا بالاحترام والتقدير والثناء. شكراً على هذا الفوز».

ومن ثم، حرص بعد ذلك في عدة تصريحات أدلى بها إلى وسائل إعلام محلية وأميركية على التأكيد بأن كارتيس «بريء» من الاتهامات التي وجهتها إليه الخزانة الأميركية. ومن هذه التهم أنه كان يدفع خلال ولايته الرئاسية رواتب شهرية مقدارها 50 ألف دولار لعدد من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب لتأمين الغالبية التي كان يحتاج إليها لتمرير المشاريع والقوانين التي تخدم مصالحه، وأنه أسس علاقات تجارية مع جهات قريبة من تنظيم «حزب الله» اللبناني الذي بنى خلال السنوات الأخيرة شبكة واسعة من المصالح الاقتصادية في عدد من بلدان أميركا اللاتينية، في طليعتها فنزويلا والإكوادور والباراغواي. واستغرب الرئيس المنتخب كيف وصلت مثل هذه «المعلومات الخاطئة» الى الإدارة الأميركية، مضيفاً: «هذا سيبقى من الأسرار التي لن نعرف أبداً حقيقتها مثل: هل نزل الإنسان فعلاً على سطح القمر؟؟ (!!) ومن قتل الرئيس جون كيندي؟؟».

موضوع تايوان الحساس

من ناحية أخرى، إلى جانب دفاع بينيا القوي عن «عرّابه» السياسي في وجه الاتهامات والعقوبات الأميركية، فهو أبدى استعداده للتهدئة مع واشنطن بإعلانه أنه سيحافظ على العلاقات الدبلوماسية مع تايوان، برغم الضغوط الشديدة التي يتعرض لها حتى من داخل حزبه والقطاعات الزراعية والصناعية التي تطالبه بإنهاء هذه العلاقات والانفتاح على الصين وسوقها التجارية الواسعة. وللعلم، الباراغواي هي واحدة من 13 دولة في العالم فقط لا تزال تقيم علاقات دبلوماسية مع تايوان تعود إلى عام 1957، أي على عهد الديكتاتور السابق ألفريدو ستروسنير، الذي دام حتى عام 1989، والذي كان على علاقة وثيقة بالزعيم الوطني الصيني (ورئيس تايوان المؤسس) شيانغ كاي شيك، الذي ما زال تمثاله الضخم يرتفع وسط حديقة واسعة تحمل اسمه في العاصمة الباراغوانية أسونسيون.

وفي حين يشكك كثيرون في قدرة بينيا على الصمود في وجه الضغوط التي يتعرّض لها من بعض النافذين في حزبه – وأيضاً من شركات الصناعات الغذائية الكبرى التي تشكّل العماد الأساسي لاقتصاد الباراغواي – لإقامة علاقات دبلوماسية مع بكين التي تواظب على التلويح بالإغراءات التجارية، يؤكد الرئيس الشاب أن لبلاده مصلحة على المدى الطويل في الحفاظ على العلاقات مع تايوان وزيادة استثماراتها في عدد من القطاعات الإنتاجية والتكنولوجية المتقدمة، وليس في الاعتماد على سوق واحدة من الصين لتصريف إنتاجها من المواد الزراعية والثروة الحيوانية.

غير أنه بعد تراجع صادرات الباراغواي إلى الأسواق الدولية بسبب المنافسة الشديدة التي تتعرض لها منتوجاتها، أخذت البلاد تواجه صعوبات متزايدة في السنوات الأخيرة لإيصال هذه المنتوجات إلى السوق الصينية، إذ أنها تضطر الآن إلى تصريف إنتاجها عبر أسواق بلدان ثالثة مثل الأرجنتين والبرازيل وتشيلي، وهي دول تصدّر المنتوجات ذاتها إلى الصين.

ثم أن المراقبين كانوا قد توقفوا عند بعض تصريحاته التي قال فيها «إن المواطنين يعرفون أن بلادهم تملك من الموارد ما يمكّنها أن تكون بين أكثر بلدان العالم تطوراً»، في حين أنها اليوم من أفقر بلدان أميركا اللاتينية. إذ يعيش ربع سكانها تحت خط الفقر، وتعدّ مؤسساتها التعليمية وخدماتها الصحية من الأسوأ في المنطقة. وأيضاً من تصريحاته المثيرة للاستغراب قوله إن «أسباب التخلف الذي تعاني منه الباراغواي تعود إلى الهزيمة القاسية التي تعرّضت لها عام 1870 على يد جيرانها وقضت على غالبية سكانها من الذكور ما أدّى إلى خسارتها قطار التنمية لسنوات طويلة». وكانت الباراغواي قد خاضت حرباً عسكرية طويلة، يطلق عليها اسم «الحرب الكبرى»، ضد التحالف الثلاثي الذي كانت تشكله البرازيل والأرجنتين والأوروغواي، انتهت بتعرضها لهزيمة قاسية خسرت معها مناطق واسعة كانت تتنازع عليها مع البرازيل والأرجنتين. وبجانب ذلك قضت تلك الحرب على نسبة عالية من رجالها، حتى أن بعض المؤرخين يعتبرون أنها كانت «حرب إبادة» للقضاء على الشعب في الباراغواي – الذي يقدّر أنه فقد بين 50 و 80 في المائة من أفراده، بل و90 في المائة من ذكوره البالغين إبان السنوات الست التي اشتعلت فيها تلك الحرب.

أخيراً، من الملفات الساخنة التي تنتظر الرئيس الجديد العلاقات مع إسرائيل، وذلك بعدما قررت حكومة بنيامين نتنياهو الحالية قطعها وإقفال سفارتها في أسونسيون رداً على قرار الرئيس المنتهية ولايته ماريو عبده إعادة مقر سفارة الباراغواي إلى تل أبيب، بعدما كان الرئيس الأسبق كارتيس قرّر نقلها إلى القدس.

ومع أن الطرفين عادا وقررا استئناف العلاقات في عام 2019، فإنهما لم يتفقا على إعادة فتح السفارتين، ويعزو المراقبون عودة إسرائيل عن خطوتها إلى قلقها من نفوذ «حزب الله» وتغلغله في المنطقة، وما تعتبره تهديداً لمصالحها وأمنها. وكان بينيا قد صرّح خلال حملته الانتخابية بأنه تعهّد في المباحثات التي أجراها قبل أشهر مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية سيعيد مقر السفارة إلى القدس.

مدريد – شوقي الريس

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط