“لقد ولى إلى غير رجعة الزمن الذي كان يمكن فيه أن يُداس الشعب الصيني وأن يُعاني وأن يُضطهد”
بهذه الكلمات خاطب الرئيس الصيني شي جينبينغ شعبه في الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي في يوليو (تموز) 2021، مذكراً إياهم بما شهدته الصين من حروب أفيون واستعمار غربي في حقبة ما زالت آثارها ترسم نظرة بكين للغرب وتقود عملية الصعود والتوسع الصيني في العالم.
تأسيس جمهورية الصين الشعبية
عام 1949 كان مفصلياً في تاريخ الصين، ما قبله ليس كما بعده. قبل هذا التاريخ، وعلى الرغم من النزاعات الداخلية، كانت الصين تعد منارة الديمقراطية في آسيا بحسب وصف فرانك ديكوتير، الأستاذ بجامعة هونغ كونغ ومؤلف سلسلة “ثلاثية شعب” التي توثق تأثير الشيوعية على حياة الناس في الصين. ففي عام 1948، استطاعت لجنة كبرى تضم 1400 مندوب ممثل عن جميع الأحزاب في البلاد، أن تصيغ دستوراً جامعاً. لكن استيلاء الميليشيات العسكرية الشيوعية على السلطة في عام 1949، وضع حداً لهذه الآمال الطموحة.
أصبح ماو تسي تونغ رئيس الحزب الشيوعي الصيني ورئيس جمهورية الصين الشعبية الوليدة ورئيس اللجنة العسكرية التي تقود جيش التحرير الشعبي، فتم تعقب المنظمات غير التابعة للحزب الشيوعي، من منظمات دينية وخيرية ومدنية وجمعيات طلابية وغرف تجارية وغيرها، وفرت حكومة حزب الكومينتاغ ورئيسها تشانغ كاي شيك إلى تايوان، حيث استمر التنافس بين المعسكرين حول السلطة في إطار الحرب الأهلية التي استمرت أكثر من عقدين. ومنذ ذلك الحين، ما زالت تايوان، الجزيرة الواقعة في الجنوب الغربي قبالة سواحل الصين، موضع نزاع بين سلطات الجزيرة المنتخبة ديمقراطياً، وبكين التي تصر على أنها جزء من الدولة الصينية ولا بد من إعادتها إلى سيادتها.
سعى الزعيم الشيوعي إلى إعادة بناء الصين عبر خطط تنموية ثورية كانت تهدف لتطوير الصناعة بالتوازي مع الزراعة لتجاوز الغرب، معتمداً على نظرية القوى المنتجة لبناء القدرات البلاد الاقتصادية. وبالفعل، شهدت الخطة الخمسية الأولى للصين نجاحاً كبيراً في البداية من خلال الاستثمار في المصانع المملوكة للدولة، التي قدمت منتجات مهمة، مثل الجرارات والآلات والأسمدة الكيماوية، بمساعدة المخططين السوفيات. وبالأرقام، توسع الاقتصاد الصيني الإجمالي بنحو تسعة في المئة سنوياً، مع ارتفاع الإنتاج الزراعي بنسبة أربعة في المئة تقريباً سنوياً، فيما بلغ الإنتاج الصناعي 19 في المئة من ناتج البلاد.
القفزة العظيمة للأمام
أطلق ماو الخطة الخمسية الثانية تحت عنوان “القفزة العظيمة للأمام”، لكن سرعان ما تحولت إلى كارثة أسفرت عن مقتل ما يقدر بـ30 مليون مواطن بسبب الجوع بين عامي 1960 و1962، وفق جمعية الدراسات الآسيوية.
بموجب الخطة، جرى تسريع عملية النهوض الاقتصادي من خلال العمل القسري واستغلال الفلاحين في العمل الصناعي وبناء البنية التحتية، والتركيز على زيادة صادرات الحبوب واستبدال بعض المحاصيل الغذائية بمحاصيل أخرى مثل القطن والشاي، ما أدى إلى تناقص احتياطيات الغذاء في الريف وبدء موجة من الموت بسبب الجوع.
عدم احترام أو فهم ماو للعلم كان أحد الأسباب الأساسية للمجاعة العظمى في الصين، فتحت حجة أنه “يجب على الإنسان قهر الطبيعة”، أطلق الزعيم الصيني حملة “الآفات الأربع” التي استهدفت القضاء على العصافير والقوارض والذباب والبعوض، معتقداً أنها تتغذى على الحبوب.
تسببت حملة “الآفات الأربع” في الإخلال بالنظام البيئي وانتشار الحشرات وأسراب الجراد التي قضت بدورها على مساحات زراعية واسعة.
الثورة الثقافية البروليتارية العظمى
فشل “القفزة العظيمة للأمام” دفع ماو إلى الانسحاب من المواقع التنفيذية في السلطة والاكتفاء برئاسة الحزب الشيوعي، فيما تولى شؤون الإدارة اليومية الرئيس ليو شاوشي والأمين العام للحزب دنغ شياو بينغ. كان ليو ودنغ يؤيدان تخفيف قبضة الحزب وتنفيذ إصلاحات سوقية خفيفة ووضع نظام ثقافي أكثر ليناً، كل ذلك في إطار لينيني مألوف. لكن ماو وأتباعه لم يتقبلوا مثل هذا التحرر بسهولة، وراحوا في المقابل يدعمون مزيداً من العمل السياسي للحيلولة دون تخلي الصين عن ثورتها.
ومع تصاعد الخلاف بين الجهتين، أشعل ماو فتيل “الثورة الثقافية البروليتارية العظمى” في مايو (أيار) 1966 باعتبارها حرباً طبقية ضد فصيل من القادة داخل الحزب الشيوعي وصفهم بـ”سالكي الطريق الرأسمالي”، وطلب من الشعب التخلص من “الباليات الأربع”، وهي العادات والتقاليد والثقافة والأفكار القديمة. إثر ذلك، تشكلت مجموعات شبه عسكرية من الطلاب المؤيدين لماو سُميت “الحرس الأحمر”، لتغرق معها الصين في دوامة من الفوضى والعنف استمرت أكثر من 10 سنوات وأسفرت عن مقتل نحو مليون ونصف المليون شخص وسجن وتعذيب ملايين آخرين، حتى وفاة ماو في سبتمبر (أيلول) 1976.
على رغم المآسي التي عرفتها الصين في ظل حكم ماو، فإنها استطاعت استعادة عضويتها في الأمم المتحدة، إذ وافقت الجمعية العامة عام 1971 على نقل عضوية مجلس الأمن من تايوان الخاضعة لحكومة الكومنتاغ، إلى جمهورية الصين الشعبية باعتبار الصين الموحدة الكيان السياسي الذي كان يسيطر على الجزيرة والأراضي الرئيسة قبل الحرب الأهلية.
الاشتراكية بخصائص صينية
عام 1978، دخل دينغ شياو بينغ نادي الكبار في الحزب الشيوعي ليقود الصين ويصبح مهندس الإصلاح الاقتصادي في البلاد، معلناً طي صفحة الماضي بعد عقود من التطهير السياسي والاكتفاء الذاتي والقيود الاجتماعية الخانقة تحت حكم ماو تسي تونغ.
بدأ دينغ في تحقيق الاستقرار السياسي، فتقاسم السلطة مع قادة حزبيين كبار آخرين خلافاً لما فعله سلفه. وفك الخناق الاجتماعي، فمنح الأفراد قدراً أكبر من الحرية في حياتهم اليومية ورفع الحظر المفروض على المؤسسات الخاصة والاستثمار الأجنبي. هذا التحول الذي أطلق عليه اسم “الإصلاح والانفتاح”، أدى إلى سياسات براغماتية حسّنت علاقات بكين مع الغرب وانتشلت مئات الملايين من الشعب الصيني من الفقر، على رغم أن الصين ظلت دولة استبدادية.
استند الإصلاح الاقتصادي لدينغ على نظرية “الاشتراكية بخصائص صينية”، التي تمثل الأساس الذي تسير عليه البلاد منذ ذلك الحين، التي دفعت الرئيس الصيني الحالي شي جينبينغ عام 2015، إلى حث الأكاديميين على تلخيص تجربة الصين في نظرية جديدة، أشار إليها باسم “الاقتصاد السياسي الماركسي الصيني”، فيما يشير المتخصصون إلى أن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية قد تبدو شكلاً من أشكال الرأسمالية تحت مظلة نظام تديره الدولة.
احتجاجات تيانانمن
لم تخلُ الإصلاحات الاقتصادية لدينغ من شوائب الفساد، لكنها في الوقت نفسه بعثت الآمال في مزيد من التحرر السياسي، فاندلعت في أبريل (نيسان) 1989 احتجاجات طلابية تطالب بمزيد من الحرية السياسية، تطورت إلى حشود بلغت نحو مليون شخص في ساحة تيانانمن في بكين. انقسم مسؤولو الحزب الحاكم حول كيفية التعامل مع الاحتجاجات، ففيما أيّد بعضهم تقديم بعض التنازلات، أراد آخرون اتخاذ موقف أكثر تشدداً، وهو ما حصل.
فُرضت الأحكام العسكرية في بكين، وبدأ الجنود الصينيون في الرابع من يونيو (حزيران)، التحرك نحو ساحة تيانانمن، لتدخل 50 شاحنة وما يصل إلى 10 آلاف جندي إلى الشوارع، حيث فتحوا النار على المتظاهرين واعتقلوا عديداً منهم لاستعادة السيطرة على المنطقة.
الانخراط في المجتمع الدولي
على الصعيد الدولي، تمكن دينغ من إعادة الصين إلى خريطة العلاقات الدولية. ففي عام 1979، وفي عهد الرئيس الأميركي جيمي كارتر، أسفرت دبلوماسية القنوات الخلفية عن اعتراف واشنطن الرسمي بجمهورية الصين الشعبية، بعدما رفضت ومعظم القوى الغربية على مدى 30 عاماً الاعتراف بالحكومة الشيوعية في بكين. غير أن هذه الخطوة لم تكن وليدة اللحظة، فبحسب مركز العلاقات الخارجية الأميركي، بدأ موقف واشنطن من الصين الشيوعية في التحول منذ عام 1972 تحت إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون، الذي زار الصين ووقع بيان شنغهاي الذي مهد لتحسين العلاقات بين البلدين.
الاعتراف الدولي الأوسع بجمهورية الصين الشعبية أعقبه عودة بكين إلى المنظمات المالية الكبرى مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مثلما هي الحال مع مجلس الأمن. لكن التحوّل الأكبر على الصعيد الاقتصادي، جاء في ديسمبر (كانون الأول) 2001، عندما تمكنت الصين، أخيراً، من الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية بعد 15 عاماً من المفاوضات الشاقة والمعقدة التي أسفرت عن انتزاع موافقة الدول الأعضاء الـ141 للمنظمة. وشكلت هذه الخطوة نقلة نوعية للصين، إذ تمكنت خلال الـ20 عاماً التي تلت من تحقيق نمو سريع جعلها أكبر دولة مُصدرة، وثاني أكبر دولة مستوردة، وثاني أكبر متلق للاستثمار الأجنبي المباشر في العالم.
لم تكن بكين لتتمكن من تحقيق هذه القفزة لولا دعم واشنطن الذي شرع أمامها أبواب منظمة التجارة العالمية، على اعتقاد أن إدخالها في نظام التجارة العالمي لن يفيد الولايات المتحدة فحسب، بل سيعزز أيضاً الإصلاح الاقتصادي والديمقراطي في نهاية المطاف في الصين، وفق ما أكد حينها الرئيس الأميركي بيل كلينتون ومستشاروه.
وبالأرقام، كانت التجارة بين واشنطن وبكين تنمو حتى قبل انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، لكن العضوية في المنظمة ضمنت “علاقات تجارية طبيعية دائمة” ووفرت للشركات الأميركية والأجنبية إمكانية الإنتاج في الصين والتصدير إلى الولايات المتحدة والعالم. وإثر ذلك، انتعشت التجارة بين الجانبين لترتفع قيمة واردات السلع الأميركية من الصين من حوالى 100 مليار دولار في عام 2001 إلى 500 مليار دولار في عام 2021. وتعزى هذه القفزة في الواردات جزئياً إلى موقع بكين الحاسم في سلاسل التوريد العالمية، إذ تقوم المصانع الصينية باستخدام مكونات من جميع أنحاء العالم في المنتجات التي تصدرها.
الصعود السلمي
بعد “الثورة الثقافية” التي غيرت الأمة بشكل لا رجعة فيه وتسببت في أزمات تتعلق بالإيمان الأيديولوجي والحزب الشيوعي الصيني والثقة في المستقبل، أدرك الحزب أن الشرعية القائمة على الأداء هي الأمل الوحيد لإطالة أمد حكمه، وأصبحت التنمية الاقتصادية هي السياسة العليا. لكن في الوقت نفسه، هذه السياسة كانت موضع مراقبة من جيران الصين والولايات المتحدة. فالجمع بين النمو الاقتصادي المذهل والحوكمة السياسية والاختلاف الأيديولوجي مع القيم الغربية، تسبب في مخاوف عميقة بشأن الصين. ووفق مينغ شيا، أستاذ العلوم السياسية بجامعة مدينة نيويورك، فإن القيادة الصينية أدركت الحاجة الملحة لتهدئة هذه المخاوف وبناء بيئة دولية داعمة لصعودها، فطرحت حكومة الرئيس هو جينتاو نظرية “نهوض الصين السلمي”، وأعلن عنها رئيس مجلس الدولة الصيني وين جياباو في خطابه أمام جمهور جامعة هرفارد في ديسمبر 2003.
“الصعود السلمي”
نظرية صاغها السياسي والاستراتيجي الصيني زينغ بيجان الذي صاغ تقارير رئيسة لخمسة مؤتمرات حزبية وطنية وشغل مناصب عليا في المنظمات الأكاديمية والحزبية في الصين
تقوم النظرية على عدة مبادئ
- تعتمد تنمية الصين على المساهمة في السلام العالمي
- تلجأ الصين إلى الوسائل السلمية من أجل التنمية تعتمد تنمية الصين بدرجة أكبر على مواردها وسوقها
- الصين مستعدة لعملية طويلة الأمد من العمل الجاد، حتى عدة أجيال، من أجل الازدهار الاقتصادي
- لن تسعى الصين إلى الهيمنة على العالم أو تظهر كتهديد لأي دولة
- الحلم الصيني
على وزن “الحلم الأميركي”، جاء الرئيس شي جينبينغ بشعار “الحلم الصيني” الذي ردده مرات عدة في أول كلمة وجهها للشعب الصيني كرئيس للبلاد في 17 مارس (آذار) 2013، قائلاً “علينا بذل الجهود الحثيثة وأن نتقدم بإرادة لا تعرف الهوان من أجل دفع قضيتنا العظيمة -قضية بناء الاشتراكية بخصائص صينية- إلى الأمام، وأن نكافح من أجل تحقيق الحلم الصيني بالتجديد العظيم للأمة الصينية”.
يشير الحلم الصيني، وفقاً للرئيس شي، إلى التطلع الجماعي “للتجديد العظيم للأمة الصينية”، وكذلك للأحلام الشخصية للمواطنين الصينيين لتحقيق حياة منتجة وصحية وسعيدة. لكن بحسب مراقبين، فإن الحلم الصيني لا يتعلق فقط بالتقدم والتنمية، بل تأسس على تصميم الحفاظ على هيمنة الحزب الشيوعي بل وهيمنة حكم الفرد متمثلاً في الرئيس نفسه شي جينبيغ.
ففي إطار مساعي شي لتعزيز سلطته على الحزب الشيوعي، أقدم البرلمان الصيني في عام 2018 على إلغاء تحديد فترات بقاء رئيس البلاد في السلطة، ليعود شي ويفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة في تاريخ الصين في أعقاب المؤتمر الـ20 للحزب الشيوعي في أكتوبر 2022، بعدما عزل مسؤولين مؤيدين للسوق الحرة والرأسمالية من قيادة الحزب.
وبحسب أستاذ القانون الصيني والسياسة في كلية فوردهام الأميركية للحقوق كارل مينزنر، فإن شي عمد كذلك إلى تهميش تاريخ القادة السابقين للبلاد، هو جينتاو وجيانغ زيمين ودينغ، بغية تعزيز صورته كذروة صعود الصين. وأضاف، “اللعبة في الوقت الحالي هي صعود الصورة الأيديولوجية لشي إلى حد قريب جداً من أو ربما تتجاوز ماو نفسه”.
ووفق أستاذ العلوم السياسية والشؤون الأمنية في جامعة “برنستون” الأميركية روري ترويكس، فإن “هذا الفصل الدرامي والغامض من المشهد يؤكد الموضوع العام للمؤتمر الوطني: تعزيز شي المُطلق لسلطته. وما خروج هو جينتاو الضعيف من المسرح سوى علامة على المسار الحالي للسياسة الصينية. فالرئيس السابق وحلفاؤه يمثلون حلفاً أكثر تكنوقراطية واعتدالاً في الحزب من جناح شي، كما أن ذلك الحلف أكثر انفتاحاً على العالم الخارجي وأقل عدوانية من الأخير… والآن كُتبت نهاية هذا التوافق بين الفريقين، وبات هناك زعيم واحد يهيمن على الصين، وهو زعيم يحيط به الآن أشخاص يُمكنون سلطته ولن يقيدوه، على عكس فترتيه الأوليين”.
خطوات رسخت حكم شي جينبينغ
2013:
إطلاق حملات لمكافحة الفساد شملت معارضين سياسيين، مثل بو تشيلاي كبير مسؤولي الحزب الشيوعي في تشونغتشينغ، الذي حكم عليه بالسجن مدى الحياة
2015:
اعتقال مئات المحامين المدافعين عن حقوق الإنسان وسحب تراخيص مزاولة المحاماة من آخرين بسبب دفاعهم عن قضايا حساسة
2018:
ألغى البرلمان الصيني تحديد فترات بقاء رئيس البلاد في السلطة ما يفسح المجال أمام بقاء شي جينبينغ في السلطة مدى الحياة
مبادرة “الحزام والطريق”
في عام 2013، أطلق الرئيس شي جينبينغ مجموعة واسعة من مبادرات التنمية والاستثمار تم تصميمها لربط شرق آسيا وأوروبا من خلال البنية التحتية المادية، ثم توسع المشروع ليشمل أفريقيا وأوقيانوسيا وأميركا اللاتينية، مما أدى إلى توسيع نفوذ الصين الاقتصادي والسياسي بشكل كبير حول العالم.
1 تريليون دولار
تنطوي مبادرة “الحزام والطريق” على إنفاق واحد تريليون دولار في أعمال البناء والاستثمارات في أكثر من 100 دولة عبر آسيا الوسطى وأفريقيا وأوروبا
70 في المئة
تغطي المبادرة 70 في المئة من السكان في العالم،
و75 في المئة من احتياطيات الطاقة المعروفة
147 دولة
وقعت حتى الآن 147 دولة تمثل 40 في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي، على مشروعات في المبادرة أو أشارت إلى اهتمامها للقيام بذلك
42 ميناء
يضم المشروع حتى الآن 42 ميناء في 34 دولة حول العالم،
مثل سريلانكا وتنزانيا وجيبوتي وإسرائيل واليونان وصولاً إلى البرازيل
الإمبريالية الجديدة
يعتبر البعض أن مبادرة “الحزام والطريق”، التي تُعرف أحياناً بـ”طريق الحرير”، هي نوع من “الإمبريالية الجديدة”، إذ ينظر مراقبون إلى القروض الكبيرة التي تمنحها الصين للدول لتمويل تحديث بنيتها التحتية في إطار المبادرة، على أنها كأس مسمومة محتملة.
بالأرقام، يُظهر برنامج تعقب “الحزام والطريق” التابع لـمجلس العلاقات الخارجية الأميركي، أن إجمالي الديون المستحقة للصين قد ارتفع بشكل كبير منذ عام 2013، متجاوزاً في بعض البلدان 20 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. فبين عام 2014 و2017، الفترة التي شهدت ذروة الإقراض في الصين، بلغ مجموع القروض أكثر من 120 مليار دولار تغطي مشاريع مدعومة من الطرق السريعة إلى السكك الحديدية ومحطات الطاقة.
في ماليزيا، شن رئيس الوزراء السابق مهاتير محمد حملة ضد مشروعات مبادرة “الحزام والطريق” المبالغ فيها وألغى مشاريع بقيمة 23 مليار دولار خشية وضع البلاد تحت عبء ديون خانقة. وقال “لا نريد وضعاً تحدث فيه نسخة جديدة من الاستعمار لأن الدول الفقيرة غير قادرة على التنافس مع الدول الغنية، لذلك نحن بحاجة إلى تجارة عادلة”، غير أنه عاد وأعلن لاحقاً “دعمه الكامل” للمبادرة.
وبالفعل، وبسبب عبء الديون، اضطرت سريلانكا لنقل ملكية مشروع ميناء هامبانتونا إلى الصين للتخلص من عبء مليار دولار أميركي، وهو ميناء يمثل موطئ قدم لبكين في ممر مائي استراتيجي يقع بالقرب من الهند، المنافس اللدود لها. وسيطرة الصين على ميناء هامبانتونا فتحت النقاش حول سياسة الديون الصينية التي تثقل البلاد النامية بالديون ومن ثم توقعها في فخ عدم القدرة على السداد، فتحقق بكين أهدافاً استراتيجية أوسع بالسيطرة على مشاريع مهمة حول العالم.
النمو الاقتصادي
منذ أن بدأت الصين في الانفتاح وإصلاح اقتصادها في عام 1978، بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي أكثر من تسعة في المئة سنوياً، وانتُشل أكثر من 800 مليون شخص من براثن الفقر، بالتوازي مع إجراء تحسينات كبيرة في الوصول إلى الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها. غير أن ظهور فيروس كورونا عام 2019 والأزمة العقارية اللاحقة التي شهدتها الصين، أربكا مسار النمو الاقتصادي الذي سجل في عام 2022 أدنى نسبة منذ 40 عاماً من دون أن يتجاوز ثلاثة في المئة، بما يمثل انخفاضاً كبيراً عن عام 2021 عندما زاد الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بأكثر من ثمانية في المئة.
وتوقع البنك الدولي أن ينتعش الناتج المحلي الإجمالي للصين إلى 4.3 في المئة عام 2023، في حين توقع عضو لجنة السياسة النقدية في البنك المركزي الصيني وانغ يمينغ، أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بأكثر من خمسة في المئة خلال العام.
وتعد الصين حالياً دولة ذات دخل متوسط أعلى، لذا يوصي البنك الدولي بالمضي قدماً نحو تحول جهود التخفيف من حدة الفقر بشكل متزايد إلى معالجة نقاط الضعف التي يواجهها عدد كبير من الأشخاص الذين لا يزالون يعتبرون فقراء وفقاً لمعايير البلدان المتوسطة الدخل، بما في ذلك أولئك الذين يعيشون في المناطق الحضرية.
قدرات الصين العسكرية
مطلع مارس (آذار)، أعلنت الصين زيادة ميزانيتها الدفاعية لعام 2023 بنسبة 7.2 في المئة، وهي أعلى نسبة منذ 2019. وستخصص الصين 1553.7 مليار يوان (225 مليار دولار) لنفقات الدفاع، وهي ثاني أعلى ميزانية في العالم بعد الولايات المتحدة التي تزيد عليها بنحو ثلاثة أضعاف.
تأتي الصين في المرتبة الثالثة في قائمة أقوى جيوش العالم لعام 2023، وفق مؤشر “غلوبال فاير”. ويضم جيش التحرير الشعبي الآن في صفوفه مليونين و35 ألف رجل وامرأة، بحسب مركز الأبحاث البريطاني “المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية”. ويتوزع هذا العدد بين القوات البرية (965 ألفاً) والجوية (395 ألفا) والبحرية (260 ألفا) والوحدة المسؤولة عن الصواريخ الاستراتيجية (120 ألفاً).
وتمتلك الصين نحو 350 رأساً نووياً، وفقاً لأرقام تعود لعام 2022 أوردها “معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام”. إلا أن وزارة الدفاع الأميركية اتهمت بكين في نوفمبر (تشرين الثاني) بنيتها زيادة ترسانتها النووية إلى 1500 رأس بحلول عام 2035.
وتمتلك الصين ثلاث حاملات طائرات، تعمل اثنتان منها فقط حالياً والثالثة في مرحلة اختبار في البحر. ولديها قاعدة عسكرية واحدة فقط خارج البلاد في جيبوتي، وتقول إنها مخصصة بشكل أساس لعمليات مكافحة القرصنة في المنطقة، مقابل امتلاك الولايات المتحدة مئات القواعد في جميع أنحاء العالم.
وتعتقد وزارة الدفاع الأميركية أن الصين “تلحق بسرعة مصاف القوات الجوية الغربية”. وبحسب “المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية”، فإنها بكين تحرز تطوراً سريعاً، مدعومة على الأخص بمقاتلات جديدة مثل “J-16” والمقاتلات الشبح “J-20″، وهي طائرات “تضاعف على الأرجح” معدل إنتاجها السنوي خلال السنوات الثلاث الماضية.
تحديات داخلية وخارجية
بينما يفرض نظام الحزب الشيوعي الصيني قمعاً داخلياً ضد المعارضين والداعين للديمقراطية التي يعتبرها تهديداً مباشراً لبقاء الحزب في السلطة، فإن تلك الأقاليم التي تحظى باستقلال ذاتي لا تزال تشكل صداعاً في رأس بكين، ناهيك بالحرب التجارية التي تضغط بها واشنطن لاحتواء الصعود الصيني المتسارع.
داخلياً، المخاوف من الاضطرابات الاجتماعية مستمرة، ويتشارك القادة القلق من أن الغضب العام والنشاط في شأن مجموعة من القضايا، مثل عدم المساواة في الدخل والتهديدات البيئية والاستيلاء على الأراضي وسلامة الغذاء والافتقار إلى حماية المستهلك، يمكن أن يهدد سيطرة الحزب ويحفز التغيير الاجتماعي الديمقراطي، فعدد من مظالم الجمهور باتت مطروحة على مواقع الإنترنت، ما أدى إلى تآكل طفيف لسيطرة الحزب الشيوعي على الاتصالات السياسية في البلاد على رغم الرقابة الشديدة التي يفرضها.
وأحد مظاهر التململ الصيني، حملة “تانغ بينغ” أو “لاينغ فلات”، وتعني “ابقَ مستلقياً”، التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي في الأشهر الأخيرة. وتقوم الفكرة على تحرير الذات من نماذج نجاح المجتمع الصيني لتبني أسلوب حياة أبسط وأكثر سعادة. ويرجع أصل هذه الحركة إلى نص مكتوب نشر على الإنترنت في يوليو (تموز) 2021 بعنوان “لاينغ فلات إن جاستيس”، لتكثر على إثره شهادات تعبّر عن الإرهاق من الحياة اليومية، قبل أن تحذف فوراً. ولم تبقَ الحركة في الفضاء الإلكتروني وحسب، بل وصلت إلى الشارع حيث يرتدي البعض قمصاناً تحمل شعار “#لاينغ_فلات“.
هذا الامتعاض أخذ منعطفاً آخر بحملة جديدة تحت عنوان “لت إت روت” وتعني “دعه يتعفن”. ويقول عالم السينولوجيا ومدير شركة “سيركوس غروب” في مونتريال أليكس باييت، لموقع “فرانس 24″، إن حملة “دعه يتعفن” تنتشر حتى بين قياديي الحزب الشيوعي، “لقد رأينا ذلك، على سبيل المثال، أثناء الفيضانات: يفضل التنفيذيون انتظار تعليمات واضحة من الهيئات الإدارية بدلاً من اتخاذ مبادرات، حتى لو كان لذلك عواقب وخيمة”.
كما تواجه الصين انتقادات دولية متصاعدة جراء معاملتها القمعية للسكان الإيغور في إقليم شينغيانغ الصيني، إذ يُحكى عن معسكرات للعمل القسري يُحتجز فيها أبناء تلك الأقلية المسلمة. وفرضت الولايات المتحدة عقوبات على مسؤولين صينيين وشركات ومؤسسات لها صلة بما تمارسه الدولة بحق الإيغور، علماً أن بكين تنفي أي انتهاكات لحقوقهم.
خارجياً، الحرب التجارية مع الولايات المتحدة تفاقم الضغط على الصين. في مارس 2018، أعلن الرئيس الأميركي حينها دونالد ترمب الاتجاه لفرض رسوم جمركية تبلغ 50 مليار دولار على السلع الصينية لمواجهة الممارسات التجارية غير العادلة وسرقات الملكية الفكرية. ومع تطبيق القرار في صيف العام نفسه، تبادل الطرفان فرض الرسوم الجمركية على بضائع تصل قيمتها إلى مليارات الدولارت. وفي حين دعا وزير الخارجية الصيني وانغ يي الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن إلى رفع القيود، جاء الرد الرئيس الديمقراطي بزيادة الضوابط، إذ اتخذت إدارته إجراءات عديدة لمنع حصول الصين على تكنولوجيا الرقائق الإلكترونية الدقيقة وأشباه الموصلات اللازمة لصناعة عديد من الأجهزة التكنولوجية والأسلحة المتطورة، وحثت كذلك أوروبا على الاصطفاف معها في مواجهة الصين، باعتبارها خصماً استراتيجياً، وهو ما استجاب له الاتحاد الأوروبي.
صداع إقليمي ثلاثي
في عام 1997، أوفت بريطانيا بالتزامها للصين بتسليم هونغ كونغ لسلطة الحكومة المركزية في بكين مقابل تعهّد الأخيرة بإبقاء النظام الرأسمالي في هذه المنطقة من دون تغيير لمدة 50 عاماً “على الأقل” حتى عام 2047 عملاً بمبدأ “دولة واحدة ونظامين”، الذي هدف إلى “توحيد البلاد سلمياً، وضمان أن تتمسك الدولة بالنظام الاشتراكي مع بقائها (هونغ كونغ) على النظام الرأسمالي، وإمكانية تمتعها بقدر من الحكم الذاتي”.
بالفعل، حصلت هونغ كونغ على امتيازات مهمة منها استقلالية واسعة النطاق وحرية تعبير وقضاء مستقل، ومع ذلك لم تتوقف محاولات بكين لفرض سيطرتها عليها. ففي 30 يونيو (حزيران) 2020، وقع الرئيس الصيني قانون “الأمن القومي الوطني لهونغ كونغ” الذي هدف إلى قمع الاحتجاجات الضخمة التي خرجت في المدينة رفضاً لمشروع قانون يسمح لسلطات هونغ كونغ بإرسال المشتبه فيهم جنائياً للمحاكمة في الصين. وعلى رغم تعليق المشروع، استمرت الاحتجاجات إدانة لعنف الشرطة بحق المتظاهرين وانتشرت بشكل واسع في المدينة، في تحركات دانتها الصين ووصفتها بـ”الأعمال الإرهابية”.
تايوان بدورها تمثل موقعاً لحكومة ديمقراطية منافسة للصين في قلب آسيا ولها صلات قوية بواشنطن. وفي حين تؤكد الجزيرة استقلالها، تصر الصين على أن الجزيرة الواقعة في الجنوب الغربي قبالة سواحلها هي جزء من أراضيها ولا بد من إعادتها إلى سيادتها، مما يثير مخاوف من تحرك عسكري صيني ضد تايوان.
في المنطقة نفسها، يمثل بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي حيث تمر معظم تجارة الصين نقطة أخرى مهمة، إذ تشكل هذه المنطقة محور صراع بين الصين من جهة والمحور المنافس المتحالف مع الولايات المتحدة من جهة أخرى، ويضم اليابان وتايوان والفيليبين، الذين تمنع أراضيهم وصول بكين إلى المياه العميقة في المحيط الهادئ. وعلى هذا الصعيد، وسعياً لاحتواء الصين، شكلت واشنطن أخيراً تحالفات دولية لتقويض نفوذ الصين في منطقة المحيط الهادئ، أبرزها الحوار الأمني الرباعي المعروف باسم “كواد” الذي يجمع الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، واتفاقية “أوكوس” الأمنية التي تجمع أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وفي ظل ضغط داخلي متزايد ربما يدفع شي وقيادة الحزب الشيوعي الصيني إلى تشتيت انتباه المعارضة الداخلية من خلال عدوان خارجي، يقول مراقبون إن هناك دلائل على أن الصين ستصعد العدوان وتثير الصراعات، وهو ما دفع بايدن خلال جولته الآسيوية الأولى أواخر مايو (أيار) الماضي، لإعلان التزام بلاده الدفاع عن تايوان.
“عندما تحكم القوة يتعثر النمو”
كان يُنظر إلى سقوط الشيوعية في أواخر القرن الـ20 على أنه الانتصار الأخير للديمقراطية الليبرالية والنظام الاقتصادي الرأسمالي الذي دعمته. ومع ذلك، بالنسبة للكثيرين، ألقى الصعود الاقتصادي للصين خلال الأعوام الـ30 الماضية بظلال الشك على تفوق الأنظمة الديمقراطية في ما يتعلق بالنمو الاقتصادي والازدهار. لكن هل القوة الاقتصادية وحدها كافية في مواجهة جيواستراتيجية مع الولايات المتحدة؟
يقول مدرس السياسات الدولية والأمن لدى كلية جونز هوبكنز في واشنطن جوزيف جوفي، إنه لا يمكن للديمقراطيات أن تسحق المعارضة، وهي ميزة دائمة على السلطويين. ففي الأزمات، يلجأ الأقوياء على الدوام إلى القمع، وهو أمر مفيد لهم ولكنه سيئ للاقتصاد. إذ لا يؤدي القمع إلى زيادة العائدات كما تظهر تجربة جميع الحكام المستبدين، وآخرها في فنزويلا وإيران وروسيا. ويتوقع جوفي أن تشهد الصين في عهد شي مصيراً مماثلاً قائلاً، “عندما تحكم القوة، يتعثر النمو”.
ووفق معهد “غريتر باسيفيك كابيتال” في المملكة المتحدة، فإن مسألة الديمقراطية ودور الحرية في النمو الاقتصادي عادت إلى الظهور في وقت يتباطأ نمو الصين وتكافح الدولة من أجل إعادة اختراع اقتصادها مرة أخرى مع الحفاظ على مؤسساتها السياسية الاستبدادية. وبحسب المعهد، يبدو أن فهم تأثير الحرية على التنمية الاقتصادية أمر حاسم مرة أخرى لكل من المسار الاقتصادي المحتمل للاقتصادات الكبرى مثل الصين والهند وللنمو المستمر للديمقراطية في العالم، التي يراها الغرب ليس كمحفز للنمو الاقتصادي وحسب، ولكن كحق أساسي من حقوق الإنسان أيضاً.
كتابة إنجي مجدي
تحرير وإعداد إيليانا داغر
صحيفة اندبندنت عربية