علي نور الدين
في شهر نيسان 2023، كشفت صحيفتا “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز” عن مجموعة من الوثائق السريّة التي تم تسريبها من وزارة الدفاع الأميركيّة، والتي تضمّنت معلومات تشير إلى أنّ كبار المسؤولين في جهاز الموساد الإسرائيلي شجعوا موظفي الجهاز والمواطنين في إسرائيل على المشاركة في احتجاجات مناوئة لحكومة نتنياهو.
ورغم حرص مكتب نتنياهو على نفي هذه المعلومات بشكل قاطع، أعادت هذه التسريبات فتح النقاش حول الدور السياسي الذي لعبه هذا الجهاز المخابراتي والأمني منذ نشأته، داخليًا وخارجيًا.
أدوار تتجاوز المهام المخابراتيّة
منذ إعلان تأسيسه رسميًا عام 1949، لعب هذا الجهاز دورًا كبيرًا في صياغة سياسات إسرائيل الخارجيّة ، بما فيها تلك المتصلة بعلاقاتها الدبلوماسيّة وقراراتها الاقتصاديّة، والنزاعات التي انخرطت فيها. كما انخرط الجهاز في مناكفات ومناورات أثّرت على قرارات السلم والحرب والعمليّات العسكريّة خارج حدود إسرائيل، مع كل ما يرتبط بهذه القرارات من آثار سياسيّة طويلة الأمد.
أمّا الأهم، فهو أنّ الموساد ساهم في التأثير على التوازنات السياسيّة الداخليّة، وقرارات السلطات التنفيذيّة والتشريعيّة، كما أثّر على حجم تدخّل الدولة بالحريّات الشخصيّة محليًا.
باختصار، وعند قراءة تاريخ الموساد السياسي، يمكن الاستنتاج أنّه لم يكن يومًا مجرّد مؤسسة أمنيّة تنفّذ توجيهات السلطات التنفيذيّة وقراراتها، كما يفترض أن يكون الحال بموجب القانون الذي يضعه تحت إشراف رئيس الوزراء. كما أن الجهاز لم يكتفِ بجمع المعلومات وتنفيذ العمليّات الخاصّة، عندما يُطلب منه ذلك.
بل وعلى العكس تمامًا، لطالما كان الموساد أحد أجهزة الدولة القوية، بكل ما لديها من أولويّات وأهداف خاصّة، والتي تساهم في إنتاج القرار السياسي وربما فرضه، بدل الخضوع لقرار السلطات الديمقراطيّة.
دور الموساد السياسي منذ مرحلة التأسيس
قبل أن يتم تأسيسه بشكل قانوني، بدأ الموساد بالعمل منذ العام 1937 كمنظمة للهجرة غير الشرعيّة، من خلال مجموعة من الضباط والإداريين، في قسم الاستعلام التابع لمجموعات الهاجاناه.
وكان هدف المجموعة في تلك المرحلة جمع المعلومات وتوظيف العلاقات الخارجيّة مع الجاليات اليهوديّة والحكومات وأجهزة المخابرات الأجنبيّة، لتنظيم عمليّات هجرة اليهود باتجاه إسرائيل. وهذه الوظيفة، التي جمعت ما بين الأدوار الأمنيّة والسياسيّة، ومهام الاستعلام والتواصل والعمليّات الخاصّة في الخارج، هي ما مهّد لتحوّل الموساد لاحقًا إلى جهاز مركزي للمخابرات الخارجيّة.
ومنذ تلك المرحلة، كان من الواضح أنّ دور الجهاز كأحد منظّمي الهجرة اليهوديّة تعدّى الجانب الأمني الصرف، ليشمل أدوارًا إستراتيجيّة مؤسِّسة للدولة الإسرائيليّة ومجتمعها، وعلاقاتها مع الخارج.
ويشير العديد من المؤرّخين في تلك الفترة إلى أنّ جهاز الموساد تأسس في تلك الحقبة على أنقاض الدائرة السياسيّة، التي عملت تحت وصاية وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة لفترة من الزمن، قبل حلّها. وهذا ما أورث الموساد وظائف ذات طابع دبلوماسي وسياسي، إلى جانب الوظائف المخابراتيّة التقليديّة.
في عام 1949، قررت إسرائيل إعادة تنظيم مؤسساتها الاستخباراتيّة والأمنيّة، ما دفعها لقوننة عمل الموساد تحت مسمّى “مؤسسة المعلومات والمهام الخاصّة”.
وفي تلك المرحلة، كانت مهمّة الجهاز محصورة بالتنسيق بين مؤسسات الخدمات الاستخباراتيّة والأمنيّة الأخرى، وتحديدًا جهازي إدارة استخبارات الجيش (أمان) وجهاز الأمن الداخلي (شين بيت أو الشاباك). وكان الترتيب الإداري المعتمد ينص على تكليف جهاز “أمان” بمهام الاستخبارات ذات الطابع العسكري، مقابل تكليف جهاز “شين بيت” بالمهام الداخليّة ذات الطابع الأمني، فيما يقوم الموساد بمواءمة العمليّات والمعلومات.
وكانت ثمرة تأسيس الجهاز في تلك المرحلة تنفيذ عمليّة “عزرا ونحميا” في العراق بين عامي 1950 و1951، حيث تولّى الجهاز مهمّة التواصل مع الجالية اليهوديّة هناك، ومن ثم تنظيم عمليّات إجلاء أكثر من 125 ألف يهودي باتجاه إسرائيل.
وفي ذلك الوقت، نجحت المخابرات بجمع المعلومات المفصّلة حول أماكن تواجد اليهود في العراق، فيما تم توظيف علاقات الجهاز الخارجيّة لتأمين الطائرات الأميركيّة والحصول على أذونات من الحكومة العراقيّة لتنظيم رحلات الهجرة. مع الإشارة إلى أنّ الجهاز عمل على مجموعة من المهام الأمنيّة والعمليّات الخاصّة في عمق الأراضي العراقيّة، التي احتاجها لتنفيذ عمليّات الإجلاء.
إعادة تنظيم الموساد وتوسّع الدور السياسي
وفي العام 1951، أي بعد ثلاث سنوات من الإعلان عن تأسيس إسرائيل، أعيد تنظيم الموساد ليصبح جهازًا منفصلًا، بدل أن يتولّى التنسيق بين جهازي أمان وشين بيت. ومنذ ذلك الوقت، بات الموساد هو وكالة المخابرات المركزيّة الأساسيّة التي تتولّى جمع المعلومات وتنفيذ العمليّات خارج إسرائيل، فيما تم وضع الجهاز تحت وصاية مكتب رئاسة الوزراء مباشرة.
في المقابل، تم الإبقاء على جهاز آمان كوكالة استخبارات عسكريّة متصلة مباشرة بهيئة أركان الجيش، لتتولّى المهام المخابرتيّة المكمّلة لعمل الجيش الإسرائيلي على حدود إسرائيل، وفي مواجهة الجيوش العربيّة الأخرى. أما جهاز الشين بيت، فتم ربطه برئاسة مجلس الوزراء، ليتخصّص بالشأن الأمني الداخلي، وليواجه عمليّات الفصائل الفلسطينيّة.
وللدلالة على أهميّة الدور الذي ظلّ الموساد يلعبه في عمليّة اتخاذ القرار السياسي، بعد إعادة تنظيمه في ذلك الوقت، تكفي الإشارة إلى حرص رئيس مجلس الوزراء الإسرائيلي بن غوريون على تعيين مستشاره الخاص ومسؤول الشؤون الخارجيّة في طاقمه روبين زاسلانسكي، كأوّل مدير للجهاز بعد إعادة تنظيمه.
مع الإشارة إلى أنّ زاسلانسكي كان يشغل في الوقت نفسه منصب وزير الدفاع في حكومة بن غوريون، ما يشير إلى حجم التداخل ما بين مهام الموساد الأمنيّة والوظائف السياسيّة التي قام بها. وتشير الوثائق التي أرّخت تلك الحقبة إلى أنّ زاسلانسكي كان أحد الأشخاص اللصيقين ببن غوريون، الذي ساهموا بصياغة برنامج عمله كرئيس للحكومة الإسرائيليّة.
وبحكم الطابع السرّي الذي حكم سياسة إسرائيل الخارجيّة وعلاقاتها الدبلوماسيّة في تلك الفترة، ساهم الموساد منذ بداياته في نسج علاقات الحكومات الإسرائيليّة السياسيّة مع الخارج، كما ساهم في التفاوض على اتفاقيّات وصفقات عسكريّة وتجاريّة واقتصاديّة، مع دول مختلفة.
ومع الوقت، طوّر الموساد هذا الجانب من عمليّاته، إلى حد تأسيس قسم خاص حمل إسم “تيفيل”. وسعى هذا القسم إلى عمل لمصلحة الموساد على هامش البعثات الدبلوماسيّة الإسرائيليّة في الخارج، ونسج العلاقات التي تزاوج ما بين المهام الدبلوماسيّة والأمنيّة.
فعلى سبيل المثال، ساهمت علاقات الموساد في الخارج في إفساد صفقات أسلحة عديدة، كانت من المحتمل أن تضر بتفوّق إسرائيل العسكري في مواجهة خصومها، كصفقة الصواريخ ما بين ألمانيا ومصر في ستينات القرن الماضي.
كما نجح الموساد في نسج علاقات داخل العديد من الدول العربيّة والأفريقيّة، كالبحرين والإمارات وتشاد ومصر، قبل تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، تمهيدًا لفتح العلاقات الدبلوماسيّة المباشرة معها. وهذا ما أدّى إلى تقليص عزلة إسرائيل الدوليّة على مدى العقود الماضية.
تنافس الموساد مع أجهزة الدولة الأخرى
كان من الطبيعي أن يؤدّي توسّع الأدوار التي يلعبها الموساد، وخصوصًا تلك التي تجاوزت دوره كجهاز للمخابرات، إلى تنافسه مع أجهزة الدولة الأخرى، بل وإلى حصول احتكاكات ونزاعات معها.
فعلى سبيل المثال، كشفت وثائق أرشيف الجيش الإسرائيلي عام 2017 عن الخلافات العميقة التي حكمت علاقة الموساد مع جهاز الاستخبارات العسكريّة “أمان”، منذ تأسيس الجهازين وتنظيم عملهما سنة 1951.
وساهمت الخلافات بين الجهازين خلال حرب أكتوبر 1973 في تقديمهما معلومات وتوصيات متناقضة وغير منسّقة، كما سعى كل من الجهازين إلى استمالة السلطة السياسيّة لمصلحة التقديرات والتوصيات التي يقدمها. وكانت النتيجة تجاهل السلطة السياسيّة الكثير من المعلومات المخابراتيّة المهمّة، بفعل المكائد والمؤامرات المتبادلة بين ضبّاط المخابرات، ما أدّى إلى موت المئات من الجنود الإسرائيليين.
بناء على ما تقدّم، عانت إسرائيل في العديد من المحطّات من تنافس الموساد مع جهاز الأمن العام (شين بيت) حول الدور والصلاحيّات، وخصوصًا عندما كان الأمر يتصل الأمر بتقديم التوصيات المتعلّقة بطريقة التعامل مع الفصائل الفلسطينيّة في منطقة الضفّة. وعلى هذا النحو مثلًا، شهدت إسرائيل عام 2020 تعارضًا حادًّا في التوجّهات ما بين الموساد وشين بيت، بخصوص مخططات ضم أجزاء من الضفّة الغربيّة إلى إسرائيل.
وبينما سعى قادة الجيش وشين بيت، الأقرب إلى فهم الوضع الأمني في الضفّة الغربيّة، إلى تحذير السلطة السياسيّة من تداعيات هذه المخططات، حاولت قيادة الموساد دفع الحكومة الإسرائيليّة صوب تجاهل كل هذه التوصيات والتحذيرات.
وفي هذا الوقت تحديدًا، حصلت في العديد من المحطّات احتكاكات كبيرة وخطيرة ما بين وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة وجهاز الموساد، وتحديدًا عند محاولة الموساد لعب أدوار كبيرة على مستوى علاقات إسرائيل الدبلوماسيّة مع الخارج. وفي مقابل تخطي الموساد دور الوزارة في العديد من المحطّات، حاولت الوزارة تحدّي وكسر القاعدة التي تحصر العلاقات مع أجهزة المخابرات الأجنبيّة بالموساد، تمامًا كما حدث عندما نظّمت الوزارة زيارة لرئيس جهاز شين بيت إلى الخليج.
وخلال السنوات الماضية، كثرت التقارير التي تتحدّث عن التوجّس المتبادل والمستمرّ بين قادة الأجهزة الأمنيّة الثلاث، الموساد وأمان وشين بيت، ما خلق حالة من التوتّر الأمني والإداري المستمر بينهم. وهذا ما أفقد إسرائيل القدرة على نسج إستراتيجيّات أمنيّة مستدامة ومستفرّة في العديد من الملفّات، ومنها ملف الضفّة الغربيّة مثلًا، بسبب التسابق على النفوذ والصلاحيّات.
وهكذا، يُقحم هذا الصراع على النفوذ الأجهزة الثلاثة في اللّعب على التوازنات السياسيّة الداخليّة، ما يفسّر الحديث اليوم عن الدور الذي يلعبه الموساد على هامش المظاهرات ضد نتنياهو.
في جميع الحالات، يفتح القانون الإسرائيلي المجال أمام الموساد ليلعب أدوارًا إستراتيجيّة كبيرة، من خلال إعطائه مهمّة “إجراء بحوث وتقييمات لكل المواد والمعطيات التي يجري تجميعها، لاستخلاص النتائج وتقديم التوصيات إلى الجهات السياسية والأمنية الرسمية في إسرائيل.”
وهذه المهمّة، التي لا تحدّد موضوع أو ميدان أو طبيعة البحوث والتقييمات، يمكن أن توسّع نطاق عمل الجهاز دون أي قيود، والضغط لتنفيذ توصيات في مسائل لا ترتبط بالعمل المخابراتي أو الأمني المعتاد، كالعلاقات الخارجيّة مثلًا، وهذا ما حدث بالفعل. ومن هذه الزاوية، يمكن فهم التشنّج الدائم الذي حكم علاقة المؤسسات الرسميّة الإسرائيليّة بجهاز الموساد منذ تأسيسه.
المصدر: موقع fanack.com