محمد يسري
استمر الوجود الصليبي في بلاد الشام حوالي مئتي عام، وكانت القارة الأوروبية في تلك الفترة الخزان الرئيسي الذي يمدّ الغزاة بالطاقات البشرية والمالية، على شكل “حملات صليبية” مباركة من قِبل باباوات الفاتيكان. ورغم أهمية تلك الحملات ومركزيتها في السردية التاريخية للعصور الوسطى، في كل من الشرق والغرب، إلا أنه يوجد اختلاف بين المؤرخين حول عددها، وذلك نظراً لتباين تأثيراتها، ولاختلاف ظروف وأحداث كل منها، بالإضافة إلى تعدد المناطق الجغرافية التي استهدفتها.
الحملة الشعبية… حماس ديني أفشله السلاجقة
في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، زاد ضغط السلاجقة المسلمين على الإمبراطورية البيزنطية في آسيا الصغرى، وحقق السلاجقة انتصارات عسكرية مهمة، ما دفع أباطرة القسطنطينية إلى طلب المساعدة العسكرية من باباوات روما. كنوع من الاستجابة لتلك الطلبات، قام البابا أوربان الثاني في نوفمبر 1095، بعقد مجمع ديني في مدينة كليرمونت الفرنسية، ودعا الحضور للقيام برحلات الحج المقدسة إلى المشرق، وللدفاع عن الإمبراطورية البيزنطية ضد أعدائها من السلاجقة الأتراك. وبمجرد انتهاء خطبة البابا في كليرمونت، انتشرت الدعوة للمشاركة في رحلة الحج إلى المشرق، وظهر بعض الوعاظ الذين أثّروا كثيراً على الفقراء والفلاحين وعمال المناجم. وكان بطرس الناسك، وهو راهب كاثوليكي فرنسي متحمس لدعوة البابا وللحج إلى فلسطين، أهمهم على الإطلاق، ووصفه ستيفن رنسيمان في كتابه “تاريخ الحملات الصليبية” بأنه كان يمتلك قدرة عجيبة على إقناع عموم الناس “فما من شيء يقوله أو يفعله إلا ويبدو شيئاً شبه إلهي”.
هذه الحملة التي بلغ العدد الإجمالي للمشاركين فيها ما يقرب من 25 ألف مقاتل لم تضم إلا عدداً قليلاً من الفرسان، كان على رأسهم “والتر المفلس”، وهو أحد النبلاء الفرنسيين، ولا تذكر المصادر التاريخية الكثير عن خلفيته، بينما اشترك فيها عدد كبير من النساء وقطاع الطرق والمجرمون. قامت تلك الحملة بإحداث الكثير من مظاهر الدمار والتخريب في الأراضي المجرية والبيزنطية التي مرّت عليها، وكان السبب الرئيسي في ذلك هو العجز عن توفير مؤن وأطعمة لهذا العدد الكبير من جهة، ولعدم تنظيمها من جهة أخرى، بحسب ما يذكر رنسيمان في كتابه. وكان مصير الحملة الشعبية الفشل التام. فبعدما وصلت إلى أسوار مدينة نيقية في آسيا الصغرى، خرج لها جيش منظّم بقيادة سلطان دولة سلاجقة الروم قلج أرسلان الأول ولم يجد أية صعوبة في تدميرها في معركة سيفتوت في أكتوبر 1096.
الحملة الأولى… نجاح باهر وتأسيس إمارات صليبية
في منتصف أغسطس 1096، وهو الموعد الذي كان البابا قد حدده في كليرمونت من قبل، خرجت الحملة الصليبية الأولى من أوروبا.
يذكر الدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه “الحملة الصليبية الأولى: نصوص ووثائق”، أنه جرى تنظيم الحملة على أساس التقسيمات الجغرافية واللغوية، فضلاً عن التكوين الإقطاعي لجيوش العصور الوسطى في أوروبا، والتي تُلزم كل فارس بالانضمام إلى اللورد أو الأمير التابع له عند استدعائه للحرب، وكان من أشهر قادة تلك الحملة جود فري، دوق اللورين السفلى، وأخيه بلدوين، والقائد النورماندي بوهيمند ابن روبرت جيسكارد، وابن اخته تانكرد. استفادت تلك الحملة من الظروف العصيبة التي مرّت بها الحملة الشعبية، وتم تقسيمها إلى مجموعة من الجيوش، وقام كل جيش باتخاذ طريق منفرد، لأنه لم يكن هناك أي طريق تستطيع محطاته أن توفّر المؤن والأطعمة لتلك الحشود الضخمة. استهلت تلك الحملة جهودها الموفقة، بإسقاط مدينة نيقية، الواقعة على الساحل الغربي للأناضول، عاصمة سلاجقة الروم عام 1097، ثم حققت انتصاراً ضخماً على قلج أرسلان في موقعة ضوروليوم، بالقرب من نيقية، في يوليو من العام نفسه، وسرعان ما أتبع الصليبيون جهودهم بغزو أنطاكية التي تقع على الضفة اليسرى من نهر العاصي، بعدما أوقعوا هزيمة مدوّية بجيش كربوقا، أتابك الموصل، والذي كان أقوى أمير سلجوقي تركماني في تلك الفترة. وبعد ما يقرب من عام كامل من الانتظار، تحرّكت الجيوش الصليبية إلى جنوب الشام، وسط غياب تام لأية مقاومة إسلامية حقيقية، وتمكنت من احتلال بيت المقدس، وارتكبت مذبحة ضد سكانها. يذكر فوشيه الشارتري، وكان شاهداً على تلك الأحداث، في كتابه “تاريخ الحملة على القدس”، أن الصليبيين ذبحوا ما يقرب من 10 آلاف رجل وامرأة وطفل، وبقروا بطون النساء للبحث عن قطع الذهب والمجوهرات. ورغم كل تلك الجرائم البشعة، إلا أن الحملة تُعتبر الأنجح بين الحملات الصليبية، لأنها تبّتت الوجود الصليبي في آسيا الصغرى وبلاد الشام، بعدما أسست ثلاث إمارات صليبية قوية في الرها وأنطاكية وطرابلس، بالإضافة إلى تأسيس مملكة بيت المقدس.
الحملة الثانية… عندما تسبب سقوط الرها في غليان أوروبا
بعد الصدمة الهائلة التي تعرّض لها المسلمون إبان الغزو الصليبي الأول لأراضيهم، بدأت القوى الإسلامية في استعادة توازنها وعملت على تنظيم عملية الجهاد ضد الصليبيين. أحد أهم الأسماء التي ظهرت في هذا السياق، كان عماد الدين زنكي، حاكم الموصل، الذي استطاع من خلال علاقته الوثيقة بسلاطين السلاجقة أن يوسّع دائرة نفوذه لتشمل حلب وبعلبك ونصيبين، في جنوب شرق تركيا، ليتمكن بذلك من الوقوف في وجه الغزاة.
سياسة الـ22
الخميس 10 يناير 201903:03 م
استمر الوجود الصليبي في بلاد الشام حوالي مئتي عام، وكانت القارة الأوروبية في تلك الفترة الخزان الرئيسي الذي يمدّ الغزاة بالطاقات البشرية والمالية، على شكل “حملات صليبية” مباركة من قِبل باباوات الفاتيكان. ورغم أهمية تلك الحملات ومركزيتها في السردية التاريخية للعصور الوسطى، في كل من الشرق والغرب، إلا أنه يوجد اختلاف بين المؤرخين حول عددها، وذلك نظراً لتباين تأثيراتها، ولاختلاف ظروف وأحداث كل منها، بالإضافة إلى تعدد المناطق الجغرافية التي استهدفتها.
الحملة الشعبية… حماس ديني أفشله السلاجقة
في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، زاد ضغط السلاجقة المسلمين على الإمبراطورية البيزنطية في آسيا الصغرى، وحقق السلاجقة انتصارات عسكرية مهمة، ما دفع أباطرة القسطنطينية إلى طلب المساعدة العسكرية من باباوات روما. كنوع من الاستجابة لتلك الطلبات، قام البابا أوربان الثاني في نوفمبر 1095، بعقد مجمع ديني في مدينة كليرمونت الفرنسية، ودعا الحضور للقيام برحلات الحج المقدسة إلى المشرق، وللدفاع عن الإمبراطورية البيزنطية ضد أعدائها من السلاجقة الأتراك. وبمجرد انتهاء خطبة البابا في كليرمونت، انتشرت الدعوة للمشاركة في رحلة الحج إلى المشرق، وظهر بعض الوعاظ الذين أثّروا كثيراً على الفقراء والفلاحين وعمال المناجم. وكان بطرس الناسك، وهو راهب كاثوليكي فرنسي متحمس لدعوة البابا وللحج إلى فلسطين، أهمهم على الإطلاق، ووصفه ستيفن رنسيمان في كتابه “تاريخ الحملات الصليبية” بأنه كان يمتلك قدرة عجيبة على إقناع عموم الناس “فما من شيء يقوله أو يفعله إلا ويبدو شيئاً شبه إلهي”.
هذه الحملة التي بلغ العدد الإجمالي للمشاركين فيها ما يقرب من 25 ألف مقاتل لم تضم إلا عدداً قليلاً من الفرسان، كان على رأسهم “والتر المفلس”، وهو أحد النبلاء الفرنسيين، ولا تذكر المصادر التاريخية الكثير عن خلفيته، بينما اشترك فيها عدد كبير من النساء وقطاع الطرق والمجرمون. قامت تلك الحملة بإحداث الكثير من مظاهر الدمار والتخريب في الأراضي المجرية والبيزنطية التي مرّت عليها، وكان السبب الرئيسي في ذلك هو العجز عن توفير مؤن وأطعمة لهذا العدد الكبير من جهة، ولعدم تنظيمها من جهة أخرى، بحسب ما يذكر رنسيمان في كتابه. وكان مصير الحملة الشعبية الفشل التام. فبعدما وصلت إلى أسوار مدينة نيقية في آسيا الصغرى، خرج لها جيش منظّم بقيادة سلطان دولة سلاجقة الروم قلج أرسلان الأول ولم يجد أية صعوبة في تدميرها في معركة سيفتوت في أكتوبر 1096.
الحملة الأولى… نجاح باهر وتأسيس إمارات صليبية
في منتصف أغسطس 1096، وهو الموعد الذي كان البابا قد حدده في كليرمونت من قبل، خرجت الحملة الصليبية الأولى من أوروبا. يذكر الدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه “الحملة الصليبية الأولى: نصوص ووثائق”، أنه جرى تنظيم الحملة على أساس التقسيمات الجغرافية واللغوية، فضلاً عن التكوين الإقطاعي لجيوش العصور الوسطى في أوروبا، والتي تُلزم كل فارس بالانضمام إلى اللورد أو الأمير التابع له عند استدعائه للحرب، وكان من أشهر قادة تلك الحملة جود فري، دوق اللورين السفلى، وأخيه بلدوين، والقائد النورماندي بوهيمند ابن روبرت جيسكارد، وابن اخته تانكرد. استفادت تلك الحملة من الظروف العصيبة التي مرّت بها الحملة الشعبية، وتم تقسيمها إلى مجموعة من الجيوش، وقام كل جيش باتخاذ طريق منفرد، لأنه لم يكن هناك أي طريق تستطيع محطاته أن توفّر المؤن والأطعمة لتلك الحشود الضخمة. استهلت تلك الحملة جهودها الموفقة، بإسقاط مدينة نيقية، الواقعة على الساحل الغربي للأناضول، عاصمة سلاجقة الروم عام 1097، ثم حققت انتصاراً ضخماً على قلج أرسلان في موقعة ضوروليوم، بالقرب من نيقية، في يوليو من العام نفسه، وسرعان ما أتبع الصليبيون جهودهم بغزو أنطاكية التي تقع على الضفة اليسرى من نهر العاصي، بعدما أوقعوا هزيمة مدوّية بجيش كربوقا، أتابك الموصل، والذي كان أقوى أمير سلجوقي تركماني في تلك الفترة. وبعد ما يقرب من عام كامل من الانتظار، تحرّكت الجيوش الصليبية إلى جنوب الشام، وسط غياب تام لأية مقاومة إسلامية حقيقية، وتمكنت من احتلال بيت المقدس، وارتكبت مذبحة ضد سكانها. يذكر فوشيه الشارتري، وكان شاهداً على تلك الأحداث، في كتابه “تاريخ الحملة على القدس”، أن الصليبيين ذبحوا ما يقرب من 10 آلاف رجل وامرأة وطفل، وبقروا بطون النساء للبحث عن قطع الذهب والمجوهرات. ورغم كل تلك الجرائم البشعة، إلا أن الحملة تُعتبر الأنجح بين الحملات الصليبية، لأنها تبّتت الوجود الصليبي في آسيا الصغرى وبلاد الشام، بعدما أسست ثلاث إمارات صليبية قوية في الرها وأنطاكية وطرابلس، بالإضافة إلى تأسيس مملكة بيت المقدس.
الحملة الثانية… عندما تسبب سقوط الرها في غليان أوروبا
بعد الصدمة الهائلة التي تعرّض لها المسلمون إبان الغزو الصليبي الأول لأراضيهم، بدأت القوى الإسلامية في استعادة توازنها وعملت على تنظيم عملية الجهاد ضد الصليبيين. أحد أهم الأسماء التي ظهرت في هذا السياق، كان عماد الدين زنكي، حاكم الموصل، الذي استطاع من خلال علاقته الوثيقة بسلاطين السلاجقة أن يوسّع دائرة نفوذه لتشمل حلب وبعلبك ونصيبين، في جنوب شرق تركيا، ليتمكن بذلك من الوقوف في وجه الغزاة.
الإمارات والممالك الصليبية في الشام والأناضول سنة 1135م[/caption] زنكي استطاع عام 1137 أن يحقق انتصاراً كبيراً على ملك بيت المقدس في معركة بعرين بالقرب من مدينة حماة السورية، بحسب ما يذكر ابن القلانسي في كتابه “ذيل تاريخ دمشق”، كما تمكّن بعد سبع سنوات من استرداد مدينة الرها التي تقع في جنوب شرق الأناضول. تسبّب سقوط إمارة الرها في غليان القارة الأوروبية، وأسفر عن إرسال الحملة الصليبية الثانية، والتي قادها كل من لويس السابع ملك فرنسا وكونراد الثالث، إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، والتي مثلت السلطة السياسية الأكثر نفوذاً وحضوراً في أوروبا منذ أن تم تأسيسها عام 800 على يد شارلمان. يذكر الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور في كتابه “الحركة الصليبية” أن الحملة تعرّضت لمتاعب جمة منذ بدايتها، إذ تلقت هزيمة على يد السلاجقة بالقرب من ضوروليوم، ثم وقع اختلاف بين زعمائها حول وجهتها. وبعد طول اختلاف، اتفق قادة الحملة مع الزعماء الصليبيين في بلاد الشام على مهاجمة دمشق، ولكنهم سرعان ما فكوا حصارهم عن دمشق، بسبب تحرّك نور الدين محمود بن زنكي، حاكم حلب والذي خلف أبيه في رفع راية الجهاد ضد الصليبيين، لقتالهم. ترتبت على تلك الحملة نتائج تمثلت في انهيار أسطورة المقاتل الأوروبي الذي لا يقهر، بحسب ما يذكر رنسيمان، كما أنها مهدت الطريق أمام نور الدين للاستيلاء على دمشق بعد إسقاط دولة بني بوري، حكام دمشق، وتحقيق الوحدة بينها وبين حلب لاحقاً.
الحملة الثالثة… الصدام الأشهر بين ريتشارد قلب الأسد وصلاح الدين
كان الدور السياسي الذي اضطلع به صلاح الدين يوسف بن أيوب، في حقيقته استكمالاً لجهود البيت الزنكي في قتال الصليبيين في بلاد الشام. فبعد أن وصل في معية عمه شيركوه إلى مصر لنجدة الوزير شاور، تغيّرت الظروف السياسية بسرعة، وتولى شيركوه نفسه الوزارة بعد غدره بشاور، وبعدها تولى صلاح الدين هذا المنصب عقب وفاة عمه. بعد وفاة نور الدين محمود عام 1174، عمل صلاح الدين على فرض سيطرته على جميع المدن الشامية التي كانت خاضعة لنفوذ الزنكيين، فتزوج من عصمة الدين خاتون، أرملة نور الدين، وبدأ في منازلة ورثة بيت زنكي، حتى استخلص معظم المدن الشامية من أيديهم، ثم استدعته الظروف عام 1187 لخوض معركة حاسمة ضد الصليبيين في حطين، انتهت بانتصار صلاح الدين ودخوله إلى بيت المقدس. وبحسب ما يذكر جيمس واترسون في كتابه “سيوف مقدسة”، تسبّب ضياع “مدينة الرب” في إثارة موجة عاتية من الغضب في أوروبا، ما أسفر عن إعلان الحملة الصليبية الثالثة بمباركة البابا غريغوري الثامن.
تميّزت تلك الحملة باشتراك عدد من أقوى ملوك وأمراء الغرب المسيحي، ومنهم ريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا، فيليب الثاني أغسطس ملك فرنسا، وفريدريك بارباروسا إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
ويذكر واترسون أن الحملة تعرّضت للكثير من الصعوبات، منها وفاة فريدريك بارباروسا في طريقه إلى الشرق، وتشتت أغلبية قواته، والخلاف بين ملكي فرنسا وإنكلترا حول أحقية كل منهما في قيادة الحملة، ما تسبب في عودة فيليب إلى فرنسا مع أغلبية قواته، وبقاء جزء صغير منها في بلاد الشام. تمكّن الصليبيون في تلك الحملة من الاستيلاء على مدينة عكا الحصينة، وتبادلوا مع صلاح الدين النصر والهزيمة في بعض المعارك، وعام 1192 تم عقد صلح الرملة بين الطرفين، وبموجبه احتفظ المسلمون ببيت المقدس، وتم تسليم مدن الساحل السوري من صور إلى يافا للصليبيين، كما سمح للحجيج المسيحي بالحج للقدس دون قيد أو شرط.
الحملة الرابعة… الاستيلاء على القسطنطينية بدلاً من مصر
كانت هذه الحملة من أغرب الأحداث في تاريخ الحروب الصليبية، لما اتسمت به من طابع مميز عن باقي الحملات الصليبية الأخرى، ولما ترتب على انحرافها من نتائج، حسبما تذكر الدكتورة إسمت غنيم في كتابها “الحملة الصليبية الرابعة ومسؤولية انحرافها ضد القسطنطينية”.
كان البابا إينوسنت الثالث يتطلع لاسترداد بيت المقدس، فدعا عام 1198 إلى حملة صليبية جديدة، وكان اعتقاد قادة أوروبا وقتها، أن غزو مصر يجب أن يتم قبل غزو فلسطين، ومن هنا فقد كانت خطة قادة الحملة متركزة على الاستيلاء على السواحل المصرية في البحر المتوسط. عقد قادة الحملة اتفاقاً مع أنريكو داندولو، دوق البندقية، بموجبه توفّر تلك المدينة الصغيرة السفن اللازمة لنقل 35 ألف جندي إلى مصر، مقابل دفع مبالغ مالية معينة.
ولكن بعد انطلاق الحملة، عجز الصليبيون عن دفع التزاماتهم المالية، فأجبرهم دوق البندقية على الاستيلاء على بعض مدن المجر، ثم سرعان ما عقد معاهدة مع الملك العادل الأيوبي، واتفق مع الصليبيين على غزو القسطنطينية. تسبّب انحراف الحملة عن مسارها في إصدار البابا قراراً بحرمان الحملة بأكملها، كما أدى إلى إنقاذ الأيوبيين المنقسمين على أنفسهم من قتال الحشود الصليبية الغفيرة.
الحملة الخامسة… الأوروبيون يصلون مصر للمرة الأولى
عام 1216، دعا البابا هونوريوس الثالث إلى تدشين حملة صليبية جديدة، وبينما اعتذر أغلبية ملوك أوروبا عن الاشتراك فيها، استجاب لدعوته ملك المجر أندريه الثاني، مع عدد كبير من نبلاء أوروبا.
يذكر الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه “تاريخ الحروب الصليبية”، أن الحملة تحرّكت صوب مدينة دمياط في مصر، واستولت عليها بعد حصار امتد 19 شهراً. حاول الملك الكامل ناصر الدين محمد، خامس سلاطين الدولة الأيوبية، أن يعقد صلحاً مع قيادات الحملة، فأغراهم بإعادة بيت المقدس إليهم، ولكنهم رفضوا العرض، وتقدموا صوب القاهرة، فانتهز الكامل ذلك وفتح السدود المقامة على النيل، ما تسبب بإغراق الأراضي المحيطة بالجيش الصليبي.
وبحسب ما يذكر المقريزي في كتابه “السلوك لمعرفة دول الملوك”، فإن قادة الجيش الأوروبي وجدوا أنفسهم عاجزين عن الحركة، فمالوا لطلب الصلح من الكامل، ووافق الأخير عليه، وتم الاتفاق على تبادل الأسرى وعقد الهدنة لمدة ثمانية أعوام.
الحملة السادسة… بيت المقدس يُسلَّم كهدية!
تُعتبر هذه الحملة من أغرب الحملات الصليبية على المشرق، إذ لم تشهد قتالاً بين الصليبيين والمسلمين، بل سادت فيها الروح الدبلوماسية والودية بين الطرفين. كان فريدريك الثاني ملك صقلية يخوض صداماً عنيفاً ضد البابوية بسبب رغبة الطرفين في إحكام السيطرة على إيطاليا، وقام البابا غريغوري التاسع بإصدار قرار بالحرمان بحقه، بسبب تقاعسه عن غزو المشرق الإسلامي. الإمبراطور الذي عُرف بحبه للثقافة الإسلامية، وإعجابه بمظاهر الحضارة الإسلامية، دخل في علاقة صداقة وطيدة مع السلطان الكامل الأيوبي حاكم مصر، وعام 1228، وبعد مجموعة من السفارات المتبادلة بين الطرفين، وافق فريدريك على تقديم يد العون لصديقه الأيوبي، ضد أعدائه من الأمراء الأيوبيين في بلاد الشام من جهة والدولة الخوارزمية التي حكمت مساحات واسعة في آسيا الوسطى من جهة أخرى، حسبما يذكر الدكتور رجب محمود إبراهيم في كتابه “تاريخ الدولة الأيوبية”.
ويذكر الدكتور قاسم عبده قاسم، في كتابه “الأيوبيون والمماليك”، أنه وفي العام نفسه قدم فريدريك مع قوة صغيرة من فرسانه إلى المشرق، في ما عُرف بعد ذلك باسم “الحملة الصليبية السادسة”، ووافق الكامل على تسليم بيت المقدس للإمبراطور المسيحي، وذلك مساندةً له في حربه ضد البابوية، ولتوطيد مركزه في العالم المسيحي، خصوصاً وأن جميع الدول الأوروبية كانت تنظر له بنظرة نفور وكراهية، لتأثره بثقافة المسلمين، واستيراده لمظاهر الفنون الإسلامية إلى بلاطه، ولتسامحه مع المسلمين في صقلية، واختياره بعضهم في مناصب دولته المهمة. ورغم الأجواء السياسية الهادئة التي سارت فيها المحادثات والاتفاقات بين الحاكميْن، إلا أن موجة عاتية من الغضب الشعبي قامت في البلدان الإسلامية، عقب تسليم بيت المقدس للإمبراطور. يحدثنا ابن الأثير، في كتابه “الكامل في التاريخ”، أن قسماً كبيراً من المسلمين وجّه للكامل الاتهامات بالخيانة والتقصير، لكونه سلم تلك البقعة المقدسة للعدو.
خاتمة الصراع… الحملات السابعة والثامنة والتاسعة
كان المغول قد قاموا بتحطيم الدولة الخوارزمية في الربع الأول من القرن الثالث عشر الميلادي، وتمكن الملك الصالح نجم الدين الأيوبي حاكم مصر، من استمالة بعض القوات الخوارزمية، فدعاها إلى فتح بيت المقدس، وهو ما وقع بالفعل عام 1244، بحسب ما يذكره ابن واصل في كتابه “مفرج الكروب في أخبار بني أيوب”.
هذا الفتح أعقبه وقوع معركة أرِبيا، التي وقعت بالقرب من غزة، وانتصرت فيها قوات الصالح على التحالف الصليبي في بلاد الشام. أخبار تلك الهزائم المتلاحقة وصلت إلى أوروبا، فتم الاتفاق بين ملك فرنسا لويس التاسع والبابا إينوسنت الرابع، على القيام بحملة صليبية جديدة، وهي تلك التي انطلقت قاصدة دمياط عام 1248. يذكر الدكتور سهيل زكار، في موسوعته المهمة “الحروب الصليبية”، أن الصليبيين استولوا على دمياط دون قتال بعد فرار المقاتلين المسلمين المكلفين بالدفاع عنها، وبعد عدة أشهر انطلقوا في طريقهم إلى القاهرة، مستغلين الفوضى الحادثة في المعسكر الإسلامي نتيجة مرض الصالح أيوب. بعد وفاة الصالح أيوب، قدم ابنه توران شاه من حصن كيفا الواقع في شمال الشام، وقاد الجيش الأيوبي إلى تحقيق انتصار كبير على الملك الفرنسي في معركة المنصورة، ووقع لويس التاسع في الأسر، وتم تحريره بعدها مقابل دفع فدية ضخمة.
وعلى الرغم من الهزيمة التي تعرّض لها ملك فرنسا، إلا أنه تحين الفرصة للأخذ بثأره، وهو ما تحقق عقب تحريض من أخيه شارل أنجو ملك صقلية، بحسب ما يذكر الدكتور سهيل طقوش. بحسب المصدر السابق، أعدّ لويس التاسع حملة صليبية جديدة، عام 1270، تألفت من 36 ألف مقاتل، وعُرفت باسم الحملة الصليبية الثامنة. تونس كانت وجهة هذه الحملة، إذ نُظر إليها على كونها مصدراً مهماً للثروة، بالإضافة إلى أن موقعها الاستراتيجي كان مهماً لتنفيذ أية مشاريع مستقبلية ضد مصر. ولما علم المستنصر الحفصي حاكم تونس بالحملة، أعد التحصينات والتجهيزات للدفاع عن مدينته، فلم يكد الفرنسيون يرسون على الشواطئ إلا وداهمهم الجنود الحفصيون، وساعدتهم عوامل الحرارة الشديدة والأوبئة في الفتك بالآلاف من الجيش الفرنسي. وكان لويس التاسع نفسه أحد الضحايا. وأمام تلك الخسائر الفادحة، تراجع شارل أنجو بالقوات الصليبية، بعد أن دفع له المستنصر مبلغاً من المال، ولاقت الحملة الثامنة نفس المصير الأليم الذي لاقته الحملة السابعة. في ذلك الوقت، وصلت قوات الأمير الإنكليزي إدوارد الأول إلى تونس، فلما عرف بالنهاية المؤسفة لحلفائه، رجع بقواته إلى قبرص، وتبادل بعض الخطابات مع المغول، إذ كان الطرفان يخططان للقيام بهجوم مشترك ضد المماليك. ولما عرف سلطان المماليك في مصر والشام (1260-1277) الظاهر بيبرس بأخبار تلك المفاوضات، وجّه الأسطول المملوكي نحو قبرص لتوجيه ضربة استباقية إلى قوات إدوارد، لكن الرياح دمّرت السفن فرجع المماليك إلى مصر مهزومين بدون الدخول في معركة حقيقية، ثم تم عقد الهدنة بين الطرفين، لتكون هذه الحملة التي عُرفت بالحملة الصليبية التاسعة آخر الحملات التي يقودها أمير أوروبي في المشرق الإسلامي. وبقي وجود الصليبيين في بلاد الشام بعدها مهدداً، وبدأ الخناق يضيق عليهم شيئاً فشيئاً، وتم استرداد المدن الشامية التي كانوا قد فرضوا سيطرتهم عليها، وظل معقلهم الأخير يتمثل في مدينة عكا الحصينة، وعام 1292 قام الملك الأشرف خليل بن قلاوون بتوجيه الضربة الأخيرة لهم عندما فتح عكا، وتم عقد الاتفاقات مع البقية الباقية من الصليبيين الموجودين فيها، ليرحلوا إلى أوروبا، وليُسدل الستار بذلك على عصر الحروب الصليبية.
المصدر: موقع رصيف 22