علي أديب
يُعَدّ مؤتمر النجف الذي عقده شاه “الإمبراطورية الفارسية” نادر شاه واحداً من المحطات التي تكشف تداخل السياسي والديني في التاريخ الإسلامي، وحينذاك كانت مصلحة السلطة قد دفعتها نحو القيام بمحاولة تقريب إيجابية بين السنّة والشيعة، ولكن لم يُكتب لها البقاء طويلاً.
ارتبط الانشقاق السنّي الشيعي منذ البداية بالصراع على الحكم والسلطة. لذلك، نرى أن “الروحي” و”الزمني” يكادان لا يفترقان في التأثير والتأثر. وعلى مرّ العصور، اعتبرت السلطة الدين أحد أقوى أدوات السيطرة على الرعية وضمان طاعتهم، فطالما كان الحاكم يسوّق لنفسه كحامٍ لـ”الطريق الأصح والأنبل والأقدس إلى الله”، فإن عرشه سيكون محمياً وسلطته لا خطر عليها.
منذ مطلع القرن السادس عشر، وظف كل من الصفويين والعثمانيين الخلاف الطائفي لخدمة نزاعهم على الأرض والسلطة. فقد تبنى الصفويون المذهب الشيعي الاثنا عشري، وتبنى العثمانيون المذهب السنّي الحنفي، ونصب كل منهما نفسه مدافعاً عن أتباع مذهبه وحامياً لهم.
وتحوّل الخلاف المذهبي إلى أداة سياسية شديدة التأثير في الصراعات العسكرية على الأرض والسيطرة على المناطق المحاذية لحدود الدولتين وأهمها العراق الذي كان ساحة صراع صفوية-عثمانية لفترة ليست بالقصيرة.
توحيد الجبهة الداخلية
برز نادر خان كقائد عسكري محنك وشديد القسوة في الدولة الصفوية المتداعية، واستطاع أن يستثمر شهرته وقوته في خلع الشاه طهماسب الثاني المهزوم في حملة القوقاز عام 1731، والتي خسر فيها كل مكاسب نادر شاه من الأراضي في جورجيا وأرمينيا أمام العثمانيين، وسجنه وتولية ولده الطفل عباس الثالث الحكم، مع وصايته عليه، ليصير الحاكم الفعلي عام 1732.
كان نادر شاه، التركماني الأصل والذي نشأ نشأة سنّية، قد بدأ بالتوسع لبناء إمبراطورية واسعة لأولاده، وكان العراق ضمن ما أراد أن يضمه إلى ملكه، لقربه من العثمانيين، خصومه التقليديين.
بدأ حملاته على العراق عام 1733، ثم تجددت عام 1734 وأفضت إلى اتفاق سياسي على ترسيم الحدود والسماح للإيرانيين بزيارة العتبات المقدسة وإطلاق سراح أسرى الطرفين.
كان الهدف الأول لنادر شاه من هذا المؤتمر توحيد جبهته الداخلية بعد ما عاناه من شقاقات وصلت حد الصدام داخل معسكره أحياناً بين الجنود الأفغان والفرس بسبب الخلافات الطائفية.
كما أراد أن يطرح نفسه كموحد للمسلمين ليذهب أبعد من دور حامي الشيعة الذي لعبته الأسرة الصفوية ويمنع عودتها للحكم، وتهدئة جبهة القتال مع العثمانيين. فلطالما طلب نادر شاه من العثمانيين الاعتراف بالمذهب الجعفري مذهباً خامساً، وأن يكون هناك أمير حج إيراني ولكن العثمانيين كانوا يرفضون.
مناظرة قرب مرقد علي
طلب نادر شاه من والي بغداد أحمد باشا أن يرسل إليه أحد علماء السنّة ليشهد المناظرة قرب مرقد علي بن أبي طالب في النجف. وأرسل الوالي العثماني الشيخ عبد الله السويدي كممثل عن السنّة.
حاول البعض إنكار حدوث المؤتمر من أساسه، ولكن مصادر عراقية وفارسية تجزم بحدوثه. فقد ذكره الشيخ عبد الله السويدي في كتابين من تأليفه هما “الحجج القطعية لاتفاق الفرق الإسلامية” و”النفحة المسكية في الرحلة المكية”، كما ذكره ميرزا مهدي خان استرابادي، المؤرخ الرسمي لبلاط نادر شاه، في كتابين بالفارسية من تأليفه هما “جهانكشاري نادري” و”دري نادري”.
سافر عبد الله السويدي والتقى في النجف بوفد كبير من 70 عالماً من إيران يرأسهم كبيرهم الملا باشي، كما حضر المناظرات علماء سنّة من أفغانستان وما وراء النهر. وعقد مؤتمر النجف في 24 شوال 1156 الموافق 11 ديسمبر 1743.
كان الشيخ السويدي بمثابة الحكم هناك بين الشيخ بحر العلم الحنفي الأفغاني وفريقه، والملا باشي الشيعي الإيراني. ويبدو من سرد الشيخ السويدي الذي وثق المؤتمر أن الجفوة بين الطرفين لم تذهب وأن الثقة لم تُبنَ والخلافات لم تختفِ. فالشيخ السويدي يتكلم عن أجواء تبدو فيها السماحة والقبول وكأنها إجبار للنفس على الإذعان لما يريده الآخرون خوفاً من بطش السلطة.
في اليوم الأول من المؤتمر الذي عُقد بمحاذاة ضريح علي بن أبي طالب، وافق الملا باشي على ما طرحه عليه بحر العلم من الاعتراف بأفضلية الصحابة وفق ترتيب الخلافة بعد النبي. كما وافق على رفع السب عن الشيخين (أبي بكر وعمر) والقول إن المتعة لا يقوم بها إلا السفهاء، وقال إن أصول الشيعة على عقيدة أبي الحسن الأشعري. وطالب الملا باشي بحر العلم بأن يعترف بالمذهب الجعفري مذهباً خامساً فوافق بعد مراجعة وتلكؤ وترديد لقول: سب الشيخين كفر.
مشهد من المناظرة
من المشاهد التي ناظر فيها السويدي الملا باشي شخصياً هذه المحاورة التي أوردها ضمن عنوان “مسألتان لا تستطيع الشيعة الجواب عنهما”.
السويدي: ما حكم أفعال الخليفة الجائر عندكم؟ هل هي نافذة عند الشيعة؟
الملا: لا تصح ولا تنفذ.
السويدي: أنشدك الله من أي عشيرة أم محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب؟
الملا: من بني حنيفة.
السويدي: مَن سبى بني حنيفة؟
الملا: لا أدري (وهو كاذب) كما يقول في الكتاب.
قال بعضهم: سباهم أبو بكر.
وهنا يسأل السويدي كيف استساغ علي لنفسه أن يأخذ جارية من سبي خليفة جائر أفعاله لا تصح، فقال الملا باشي لعله استوهبها من أهلها، وعندما طالبه السويدي بالدليل انقطع الملا باشي.
وعلى هذا النمط، دارت العديد من المناقشات والتي انتهت، وبسبب وجود إرادة سياسية من حاكم جبار، بموافقة علماء الشيعة على النقاط التالية والتي مهروها بأختامهم في اليوم الثاني:
أ. بما أنَ أهل إيران عدلوا عن العقائد السالفة ونكلوا من الرفض والسب، وقبلوا المذهب الجعفري الذي هو من المذاهب الحقة، المأمول من القضاة والعلماء والأفندية الكرام الإذعان بذلك وجعله خامس مذهب.
ب. إن الأركان الأربعة من الكعبة المعظمة في المسجد الحرام التي تتعلق بالمذاهب الأربعة، والمذهب الجعفري يشاركهم في الركن الشامي بعد فراغ الإمام الراتب فيه من الصلاة، يصلون بإمامهم على طريقة الجعفري (أي أن إمام المذهب الجعفري يمكنه الصلاة في أحد أركان البيت الحرام التي كان يشغلها عادة أئمة من المذاهب الأربعة).
ت. في كل سنة يعين من حكومة إيران أمير للحج الإيراني، ويكون في الدولة العلية العثمانية أعلى شأنا من الأمير المصري والشامي.
ث. فك الأسرى من الجانبين ومنع وقوع التحقير عليهم.
ج. يعين وكيلان في الدولتين في مقر السلطنتين لأجل القيام بمصالح المملكتين، وبهذه الوسيلة ترتفع الاختلافات الصورية والمعنوية ما بين أمة سيد الثقلين (ص).
وسُجّلت في الوثيقة خلاصة عقيدة الشيعة وشهادة أهل السنّة عليها، وخلاصة عقيدة أهل السنّة وشهادة الشيعة عليها. كما تضمنت الوثيقة الإقرار بالخلفاء الراشدين الأربعة على الترتيب الذي هم عليه، ومدح مؤتمر النجف الإمام جعفر الصادق وقبوله عند سائر أئمة المذاهب، واعتبر أن الاختلاف في بعض الفروع لا يؤدي إلى الخروج من الإسلام، مع تحريم الاقتتال بين الطرفين.
مشهد لافت في اليوم التالي
سعد نادر شاه بمقررات المؤتمر، ووزعت الحلويات وتعانق ألوف السنّة والشيعة في معسكر نادر شاه، من إيرانيين وأفغان وأوزبك وغيرهم، احتفاء بوحدة مفترضة للمسلمين بعد توقيع النقاط السابقة. ولكن مشهداً لافتاً في اليوم التالي يؤكد حقيقة أن خلافاً استمر لقرون وشكّل هوية دينية لطرفين متضادين لا يمكن أن ينتهي بإرادة سياسية، مهما بلغ جبروتها، في يومين فقط.
فقد طلب نادر شاه من السويدي البقاء لليوم التالي لحضور صلاة الجمعة التي أقيمت في جامع الكوفة مع كل الوفود، وقد كان. يقول السويدي إن أحد علماء الشيعة، وهو السيد نصر الله الحائري من كربلاء ارتقى المنبر وبدأ خطبته بمدح النبي ومن بعده الصحابة بالترتيب السنّي وحين قال: “وعلى الخليفة الثاني الناطق بالصدق والصواب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه” نطق اسم عمر مجروراً مع أنه ممنوع من الصرف. ويقول السويدي إن المتكلم من فحول العربية وإن المنع من الصرف إنما كان للعدل والمعرفة. وأضاف: “فصرفه هذا الخبيث قصداً إلى أن لا عدل فيه ولا معرفة، قاتله الله من خطيب وأخزاه، ومحقه وأذله في دنياه وعقباه”. وفي هذا التعليق ما يكفي للكشف عما بقي في دخائل النفوس رغم دعاوى الاتفاق.
يقول الدكتور ياسين شهاب شكري، أستاذ التاريخ المساعد في كلية الآداب في جامعة الكوفة والذي نشر بحثاً حول مؤتمر النجف لرصيف22 إن مؤتمر النجف هو بالفعل أول مؤتمر يتم عقده في التاريخ من أجل التقارب بين السنّة والشيعة.
ويضيف عن العلاقة بين الطائفية والسياسة: يمكن القول إن العامل السياسي له الدور الهام في التقارب أو التباعد بين المذاهب والطوائف منذ بدأ الاختلاف بين الطائفتين. كانت السلطة في غالب الأحيان تستثمر حالة الاختلاف لتحولها إلى حالة خلاف وقطيعة وهذه ما قام به الأمويون والعباسيون والبويهيون والسلاجقة والعثمانيون والصفويون. وما قام به نادر شاه كان محاولة لإظهار نفسه الزعيم الذي نجح في ما فشل فيه غيره، رغم أنه في السنوات الأولى من حكمه حاول استغلال حالة الصراع الطائفي لدعم مركزه ونفوذه أيضاً في الصراع مع العثمانيين”.
لم تدم نتائج المؤتمر طويلاً، فقد رفضت الدولة العثمانية التعامل معها، وحين أرسل أمير إيراني للحج إلى مكة قبض عليه وأرسل إلى الأستانة وقتل هناك. وبعد مقتل نادر شاه عام 1747 وتمزق دولته بين خلفائه عادت الطائفية لتشتعل مرة أخرى.
وفي واقعنا المعاصر، نرى أن موانع التقارب بين السنّة والشيعة أبعد بكثير من تفصيلة إمامة علي أو عدالة الصحابة، بل هي صراع سلطة إقليمية، ولذلك لا تثمر المبادرات ذات الصلة عن نتائج تؤدي إلى نبذ الطائفية.
المصدر: موقع رصيف 22